نعيش في زمن تَسارُع اللامساواة، الأزمة الصحية الجسدية والعقلية، والعزلة الاجتماعية المتمدّدة. في مثل هذه الأوقات، قد يكون أمرًا مغريًا توجيهُ أصبع الاتهام وإلقاء اللوم على الآخرين، والتنديد بـ "المجتمع" تمامًا كما فعلت مارغريت تاتشر ذات مرة، والتأكيد على تماسك الفرد. قد يفكّر المرء: إذا كان الآخرون لا يبحثون عني، فلماذا أستثمر نفسي فيهم؟

أصبحت الحاجة الملحة للاتصال الآن ناضجة أكثر من أي وقت مضى. لكن الاعتراف بحالة الاتصال الدائمة التي نعيشها جميعًا هي بنفس القدر من الأهمية الاستباقيّة للاتصال بالآخرين. من علم النفس إلى الثقافة الشعبية، ومن الطب إلى الفلسفة الوجودية، تنتشر صورة الذات كفرد: كما لو أن كل واحد منا كيانٌ منفصل، "يجتمع" ليشكّل مجموعات ومجتمعات وكيانات أخرى، مثل لفياثان هوبز. في العقود الأخيرة، تعزز هذا المنظور من خلال الليبرالية الجديدة الرائجة، حيث يُتوقع من كل شخص - أخلاقيًا وعمليًا - أن يكون مكتفيًا ذاتيًا ومستقلًا أولاً، بعدها فقط يكون جزءًا من شيء أكبر. مع ذلك، فإن هذه النزعة الفردية مميزة ثقافيًا وتاريخيًا، وتوضح الكثير من الأبحاث الإثنوغرافية وغيرها التعمق العميق للأفراد في سياقاتهم الاجتماعية والمادية والثقافية. يصل الأمر إلى حد تحدي فكرة العوالم العاطفية للأفراد - التي يُنظر إليها غالبًا على أنها أكثر دواخل المرء حميمية - بوصفها "داخلية" وخصوصية على نحو حصريّ. بمعنى أن ما نشعر به، وكيف نشعر به، في أي أوضاع، وكيف نعبر عنه، يتشكل أو، لنقل بشكل مختلف، يتم مشاركته من خلال ثقافتنا ومجتمعنا. قد تكون مثل هذه العوالم العاطفية المشتركة مخيفة إلى حد ما، وتتحدى صورتنا العميقة عن الذات المستقلة، ولكنها أيضًا قوية، وتقدم وجهات نظر للترابط والانتماء الجوهريين.

ذهب علماء الأنثروبولوجيا إلى أبعد من ذلك ليقترحوا أنه في بعض الثقافات على الأقل، لا يُنظر إلى الذوات كأفراد، أو ككيانات مستقلة غير قابلة للتجزئة، وإنما كذوات منقسمة أو كدمجٍ للعلاقات. تكتب مارلين ستراذرن (Marilyn Strathern 1988: 13) عن ميلانيزيا قائلة: "بعيدًا عن اعتبارهم كيانات خاصة، فإن الميلانيزيين هم ذوات منقسمة تماما مثل تصور كونهم أفرادًا. حقًا، يعاد بناء الأشخاص مثل الموقع المركّب والجمعيّ للعلاقات التي أنتجتهم. إذا لم تكن الذات ملزمة بالفصل بين الأفراد المتميزين ، فلا يمكنها أيضًا أن تكون ما نعتقد أنّه عالمهم الداخلي. دعونا نتأمل جزءًا واحدًا- العواطف.1 قد نعتقد أننا نشعر بوصفنا أفرادًا، ولكنَّ المشاعرَ المشتركة كانت منذ فترة طويلة موضوعًا في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والتخصصات الأخرى. يكتب عالم الاجتماع آرلي هوشليد، على سبيل المثال، عن العواطف على أنها اجتماعية ومعيارية إلى حدّ كبير: نحن نعرف ما يفترض بنا أن نشعر به في مواقف معينة، ويمكننا حتى مراقبة مثل هذه المشاعر المناسبة في أنفسنا وكذلك في الآخرين. قد نشارك أيضًا ردود فعل مجسّدة على التجاوزات، سواء كان ذلك بسبب النفور من الحساسية المفرطة للآخرين أو، كما يكتب بول هيلاس متحدثًا عن طائفة تشغ ونغ في ماليزيا، نشعر بالدوار عند السلوك الشحيح - أمثلة على كيفية مشاركة الحياة العاطفية بطرق محددة ثقافيًا وليس عالميًا. بالنسبة للمنظرة الثقافية سارة أحمد، فإن العواطف هي في الأساس ممارسات ثقافية وليست حالات نفسية. تكتب عن العواطف على أنها، بمعنى ما، موجودة بين الناس وليس بداخلهم، مما يوفر نوعًا من الارتباط الاجتماعيّ الذي يربط المجتمعات بينما يستبعد الآخرين منها في نفس الوقت.

لذلك يرتبط الناس بطرق أساسية عادة ما تكون غير مرئية. قد تكون هذه العلاقة العاطفية البشرية مرتبطة أحيانًا - أو مستترة - بالاختلاف الثقافي أو الاستبعاد المرغوب. ولكن هل يمكن أن يمتد أيضًا إلى ما هو وراء الإنسان؟ سيقول مؤيدو نظرية "العقل الممتد" وبشكل أضيق، نطاق "العواطف الممتدة"، نعم. يجادلون بأن العمليات المعرفية والعقلية بما في ذلك العمليات الانفعالية "تمتد إلى ما وراء الحدود الطبيعية للجسم وتضم بعض الكيانات الخارجية، سواء كانت أدوات مادية أو أجهزة تكنولوجية أو حتى أفرادًا آخرين أو أنظمة فوق فردية أو مجموعات" (León, Szanto & Zahavi 2019: 4848).2 قد تكون الأمثلة على ذلك، ظاهريًا، بيئة طقسية موحدة وأحادية الاتجاه أو الطرق التي تشارك فيها الموسيقى في جوّنا العاطفي من خلال تشجيعنا أو توجيه التحول في المشاعر مع تقدم قائمة الأغاني. يمكن للعالم المحيط أن يفعل أكثر من مجرد إثارة الاستجابات العاطفية أن يكون وسيطا، ويستوعب، ويكثف، وينظم، ويشترك في إنشائه، ويشارك ظاهريًا فيها، على سبيل المثال لا الحصر.

يسعى هذا العدد الخاص إلى استكشاف إمكانات العوالم الداخلية المشتركة - البشرية والأكثر من البشريّة- وطرح سؤال ما الذي تعنيه في العالم المعاصر، وكيف يمكنها أن توحّد وتفصل. نقترح أن استكشاف العوالم الداخليّة للأفراد كما هو الحال دومًا، له آثار على فهم اللحظة الراهنة التي تتميز بالاستقطاب والصراع والفردية النيوليبرالية والعزلة، ولكن أيضًا الاهتمام المتزايد بالمجتمع والبيئة. المقال المصوّر لجيردا باليوسيتا، والذي تمّ إعداده خصيصًا لهذا العدد، يختبر الارتباط بين الحضريّ والطبيعيّ فيما يتشاركان في الأطر الحميميّة والعاديّة في نفس الوقت للازدهار الحضريّ. يختبر عمل فيديو لأمير يتسيف الحدود بين الأنواع المختلفة: أين "ينتهي" الإنسان و"يبدأ" الأفاتار؟ إن موضوع الرؤية والعوالم المتصورة هو أيضًا موضوع هام: ماذا نرى بأعيننا، وماذا يتبقى في الداخل؟ ما الذي ينسكب من الداخل إلى الخارج وكيف يؤثر على الآخرين؟ ييستكشف حن تمير وماركوس ثور أندريسون الروابط بين الداخلي والتعبير والاستقبال. يتأمل كلاهما الصدق الجديد في الفن، ويناقشان كيف يربط (يفصل) بين الفنانين والموضوعات والمشاهدين؛ وكيف يستجيب ويؤثّر في سياق الفن والثقافة المعاصرين في نهاية المطاف. يناقش كلّ من الأخوة بوست وأرتوراس ترسكينس إمكانات المشاعر السلبية في المجالات الاجتماعية والسياسية. بينما يخلص ترسكينس إلى أن خيبة الأمل بالكاد تدفع الناس إلى العمل السياسي، يرى الأخوة بوست إمكانية في "الغضب العاطفي المشترك"، والذي قد يلهم أشكالًا جديدة من العمل الجماعي والعمل من خلال الاحتكاك. تبحث إيغلي كولبوكايتو ودوروتا غاويدا مشاعر الخوف، وتتتبعان كيفية تطوره جنبًا إلى جنب مع الانقسام الداخلي / الخارجي، بينما في عمل رويوتا، يتم الكشف عن موضوعات الخوف والقلق من خلال دراسة اللغة (اللغة الأم). أخيرًا، طرح ييتس نورتون وديفيد روباين في نصهما مسألة الترابط (أو، على حد تعبيرهما، "الاعتماد المتبادل والازدهار") من خلال استكشاف العجز وبناء العلاقات والاندماج، وبالتالي العودة إلى الموضوع الرئيسي لهذا العدد الخاص. بالتالي، بدلاً من أن تكون العوالم الداخلية خاصة وحسب، فإنها، بالتالي مشتركة بطبيعتها، منتجةً حالات مشتركة بين الناس وغالبًا ما تتجاوزهم.

المشاركة مسألة صعبة: إنها تنطوي على قدر من الضعف بنفس قدر الثبات. وسط أزمة اجتماعية في العالم المحموم ، قد يتجاوز الأمر هذا المأزق الذي نتشاركه.


نود أن نشكر حجاي أولريخ على تنسيق وإخراج هذا العدد الخاص، ونير هارئيل على التصميم، وسافرا نمرود على تحرير اللغة والترجمة العبرية، وكلّا من ريم غنايم وهشام نافع على الترجمة إلى العربية. نتوجه بشكر خاص أيضًا إلى محرري مجلّة توهو، آفي لوبين وليئة أبير وإيلينا كيدوشيتو وروماس زاباراوسكاس ود. إيفان فان هوك وبار يروشالمي.

 

  • 1. Strathern, Marilyn (1988). The Gender of the Gift. Problems with Women and Problems with Society in Melanesia.
  • 2. León, Felipe, Szanto Thomas & Zahavi Dan (2019). “Emotional Sharing and the Extended Mind.” Synthese 196.