ذاك الرجل في ذاك الصندوق

هل يمكن الحديث عن البرْجوزة في سياق الاستعمار والأراضي المنهوبة؟ ما معنى ملكية الأرض؟ رنا عسلي تطرح أسئلة إثر زيارة العرض الأدائي "ذاك الرجل في ذاك الصندوق" للفنان الفلسطيني ربيع سلفيتي.

 

Advertisement

 

لمدة ستة أيام وفي خضم الجو الحار لشهر تموز، حبس الفنان الأدائي ربيع سلفيتي نفسه وهو عارٍ في صندوق بدون سقف، ولم يغادر الصندوق خلال فترة العرض، حيث اعتمد على ما حصل عليه من الزوار من ملابس وطعام وشراب فقط. بينما كان بإمكان الزوار مشاهدته من خلال نافذتين كبيرتين، نذر سلفيتي على نفسه ألا يتكلم طوال فترة مكوثه في الصندوق.

تم العمل الأدائي في وادي الصليب في أطار مشروع "منصة بيراميدا" (القيمة: غاليا بار أور) خارج مركز بيراميدا للفن المعاصر. حيث كان الصندوق، ومساحته ثمانية أمتار مربعة، مزود بفتحة استطاع من خلالها من شاء تزويد سلفيتي بأي شيء. كما وضع في الخارج كمبيوتر استطاع الجمهور من خلاله ارسال اي بلاغ او فيديو للفنان الذي كان بإمكانه مشاهدة البلاغات على شاشة داخل الصندوق، دون إمكانية للرد عليها.

 

Rabia Salfiti, "That Man in That Box", 2018

ربيع سلفيتي، "ذاك الرجل في ذاك الصندوق"، 2018، بيراميدا – مركز للفنون المعاصرة


ربما ذهب البعض إلى اعتبار سلفيتي متعصباً دينياً أو سجيناً أو ضحية لوسائل الاعلام الاجتماعية أو لربما شخصاً اعتيادياً يعيش "رحلة البطل".1 لكن، في الواقع، يقع هذا العمل بالأساس ضمن إطار استكشاف الفن الأدائي للحالة الإنسانية غير الاعتيادية.

العلاقة ما بين الفكر والكلام (او حبسه) والشكل في هذا العمل الأدائي هي من مميزات أعمال سلفيتي الذي يستعمل الأساليب التدخلية لفن الأداء ليتحدى ويتجاوز الحدود الجسدية والعقلية، وليسلّط الضوء على المواثيق الاجتماعية والسياسية وينقل رسالته حول التقاطع الشاعري بين اللا شكل والشكل (أنظر: الضجيج الأبيض (2014)، الحج (2014)، البورتريه البشري (2012).

צילום אורית סימן טוב (1).jpg

 ربيع سلفيتي، "ذاك الرجل في ذاك الصندوق"، 2018 تصوير: أوريت سيمان-طوف. بلطف من بيراميدا – مركز للفنون المعاصرة
ربيع سلفيتي، "ذاك الرجل في ذاك الصندوق"، 2018
تصوير: أوريت سيمان-طوف. بلطف من بيراميدا – مركز للفنون المعاصرة

IMAG8922.jpg

ربيع سلفيتي، "ذاك الرجل في ذاك الصندوق"، 2018 تصوير: أوريت سيمان-طوف. بلطف من بيراميدا – مركز للفنون المعاصرة
ربيع سلفيتي، "ذاك الرجل في ذاك الصندوق"، 2018
تصوير: أوريت سيمان-طوف. بلطف من بيراميدا – مركز للفنون المعاصرة

 

ذئب البراري في الغرفة

ذاك الرجل في ذاك الصندوق هو عمل قادر، في سياقه وفي موضعه، أن يصدم، أشبه بالعرض الأدائي الشهير "أنا أحب أمريكا وأمريكا تحبني" (I Like America and America Likes Me,1974) للفنان المفهومي الألماني جوزيف بويز. حيث حبس بويز نفسه مع ذئب البراري لمدة ثمانية ساعات متواصلة يوميا لمدة ثلاثة أيام، عاش فيها وتواصل مع الذئب. وفي حين يذكّرنا عنوان العمل "الوطني" بأسطورة بوتقة الصهر الأمريكية الشائعة2، رأى بويز في أمريكا السبعينيات (من القرن الفائت) أمة مقسمة بسبب مشاركتها في حرب فيتنام، وعلاوة على ذلك، بلادًا يقمع فيها السكان البيض الشعوبَ الأصلانية ومجموعات الأقليات الأخرى.3 والمفارقة، على الرغم من تصوير المستوطنين البيض وذريتهم ذئب البراري على أنه حيوان عدواني ومفترس، وعلى أنه وبشكل مثير للاستهجان، دخيلٍ يجب القضاء عليه، بالنسبة الى بويز، وبالنسبة إلى السكان الأصلانيين أيضًا، ذئب البراري يمثّل روح امريكا.4

على نحو مشابه، ومسلِّ أيضًا، ففي المحاضرة التي قدمها سلفيتي في بار كباريت5 تحدث عن حارس المركز الذي اقترب من الصندوق برفقة شرطي وطلب من سلفيتي إخلاءه، ظنًا منه انه متشرد أو مقتحم. سلفيتي فرض على نفسه الصمت طيلة فترة العرض لذلك لم يكن بمقدوره الرد. الحارس تراجع فقط بعد تدخل عدد من زوار المعرض الذين شرحوا له أن سلفيتي هو الفنان في هذا العمل.

 

רביע סלפיתי אורית סימן טוב.jpg

ربيع سلفيتي، "ذاك الرجل في ذاك الصندوق"، 2018 تصوير: أوريت سيمان-طوف. بلطف من بيراميدا – مركز للفنون المعاصرة
ربيع سلفيتي، "ذاك الرجل في ذاك الصندوق"، 2018
تصوير: أوريت سيمان-طوف. بلطف من بيراميدا – مركز للفنون المعاصرة

20180719_204357.jpg

ربيع سلفيتي، "ذاك الرجل في ذاك الصندوق"، 2018 تصوير: ندين ناشف
ربيع سلفيتي، "ذاك الرجل في ذاك الصندوق"، 2018

تصوير: ندين ناشف


20180719_203738.jpg

ربيع سلفيتي، "ذاك الرجل في ذاك الصندوق"، 2018 تصوير:  ندين ناشف
ربيع سلفيتي، "ذاك الرجل في ذاك الصندوق"، 2018

ندين تصوير: ندين ناشف



ذاك الصندوق، هذا المكان

على الرغم من أنه لم يكن مع سلفيتي في الغرفة ذئب براري (ولربما كان؟)، يطرح السؤال عما إذا كان اختيار موقع الصندوق بمحض الصدفة او لماذا اختار الفنان غرفة بلا سقف بالذات؟ تقع الغرفة خارج مبنى بيراميدا في وادي الصليب، وهو حي فلسطيني مؤلف من بيوت خاوية ومبان آسرة، تقف اليوم بقوّة كشاهد على فظائع نكبة الفلسطينيين عام 1948. البيوت التي ملكها لاجئون ومهجّرون فلسطينيون، صادرتها السلطات الاسرائيلية بعد النكبة تحت طائلة قانون املاك الغائبين. مثلا، عبد الله كنفاني، ابن الـ 93 عاماً، هو واحد ممن سكنوا الحي في الماضي.6 سكنت عائلته بيتًا كبيرًا في شارع البرج، سابقًا فوق الوادي. كان في الـ22 من عمره حين هربت عائلته، أمه وأبوه، شقيقاه وزوجتيهما وأخته من رعب القصف نحو عكا. وحين سد القصف الطريق عليهم مجددًا، نزحت العائلة الى لبنان، ولم يسمح لها بالعودة بالمرة. صودر بيتهم كـ"أملاك غائبين" أسوة بنحو 700,000 فلسطيني أجبروا على هجر بيوتهم وممتلكاتهم جراء النكبة.7 أما اليوم، يمر الحيّ "عملية تجديد" برعاية بلدية حيفا، التي تقوم بتحويله إلى مركز فني وثقافي، متجاهلة تاريخه ومجِّردة أصحاب البيوت الفلسطينيين من حقوق ملكيتهم، لتقضي بذلك على أي معْلم لوجودٍ فلسطيني كان هنا في الماضي.

خلال زياراتي غرفة سلفيتي سمعت أحاديث الكثير من هواة الفن، بين زوار الجاليري، ممّن شاهدوا من موقع وقوفهم بجانب الصندوق أعمال الهدم والبناء في بيوت وادي الصليب التراثية الجميلة، وهناك من قالوا برومانسية وهم يذوبون انفعالاً8 "فعلا برْجوزة".(بالانجليزية: Gentrification ويُقصد بها، في مجال العمارة والتنظيم المدني، ظاهرة ديناميكية مدينية تطرأ على مناطق وأحياء الطبقات الفقيرة، بحيث تتحول المباني التراثية والقديمة التي يسكنها فقراء المدينة إلى مناطق سكن جديدة للطبقات الغنية ومتاجر لها وغير ذلك). هذه الكلمات أقلقتني بشدة، فهل يمكن الحديث عن البرْجوزة في سياق الاستعمار ونهب الأراضي؟ مصطلح البرْجوزة وضعته عالمة الاجتماع البريطانية روت غلاس9 (Glass) لوصف انتقال عائلات من الطبقة الوسطى إلى أحياء يقطنها فقراء قليلي الحيلة ودفع قسم من سكانها خارجًا في لندن خلال ستينيات القرن الماضي. هذه البرْجوزة هي عملية رهيبة تدفعها قوى الرأسمالية والفروقات الطبقية، وفي العديد من الحالات تدفعها العنصرية، ويجب مواجهتها ومحاربتها على العموم، لكن ليس هذا هو الحال في وادي الصليب، فهذا المصطلح لا يصح هنا في سياق الاستعمار.

في الأرجاء الحضَرية المعاصرة، يرتدي النهب والإهمال شكل البرجوزة. لكن هذه المصطلحات لا تنطبق على وادي الصليب. هنا في وادي الصليب لا يصلح رفع شعار البرجوزة، فنحن ما زلنا نعيش تحت الاستعمار الاستيطاني والتهجير القصري للسكان الأصلانيين. في هذا المكان، نهب الأراضي هو واقع يحدث يومياً. لتعرية هذه العملية، بنى سلفيتي الصندوق وتجرد من ملابسه خارج مركز اسرائيلي للفنون في وادي الصليب الفلسطيني، بين بيوت الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم بالقوة خلال الاجتياح الإسرائيلي عام 1948.

كان واضحًا لي تمامًا بأن العرض الأدائي عكسَ الشكل الذي يمحو فيه النظام الاستعماري وجود أبناء وبنات المكان الأصلانيين ويلغي إنسانيتهم، بكونه يمنح الشخص العاري وهم الغذاء والملجأ المؤقت الذي سيُدمّر ويُطرد منه في نهاية المطاف. على نحو مستفز، يؤشر العمل على العلاقة بين أشخاص وشعوب يرفضون الاختفاء وبين العمى الاستعماري لدى المسؤولين عن هذه الأوضاع.

وماذا لو كانت الآلية الأهم للصمود والبقاء هي الرفض المطلق للمغادرة؟ ما معنى ملكية الأرض لدى أمة قامت على أسس العنف ضد الأصلانيين وأبناء وبنات المكان الطبيعيين؟، تدعونا هذه الأسئلة الى فحص حصة الجمهور في ممارسة العنف.

 

 

רביע סלפיתי צילום דניאל אבוקרט.jpg

ربيع سلفيتي، "ذاك الرجل في ذاك الصندوق"، 2018 تصوير: دنيئيل أبوكرت بلطف من بيراميدا – مركز للفنون المعاصرة
ربيع سلفيتي، "ذاك الرجل في ذاك الصندوق"، 2018
تصوير: دنيئيل أبوكرت بلطف من بيراميدا – مركز للفنون المعاصرة

ذاك الشخص، ابتسامته

في قصة "أليس في بلاد العجائب"، سألت ألِيس القط شيشاير: "هلا أخبرتنِي أيَّ طريقٍ ينبغي أن أسلك لأخرج من هنا؟"، فأجاب القط: "هذا يعتمد كثيراً على المكان الذي ترغبين في الذهاب إليه"، فقالت أليس: "لا يهمني كثيرا إلى أين..."، فأجاب: "إذاً، لا يهم أي طريق تسلكين"، فأضافت ألِيس: "حسنا، طالما أصِل إلى مكان ما"، فأجابها القط: "بالتأكيد ستصلين، لو أنك مشيت بما فيه الكفاية".10

سلفيتي، الذي يتمحور في إبداعه الفني حول التجربة الانسانية والفن المعاصر، يبحث في ما يصفه كعلاقات بين الأفراد وبيئتهم، بين الشكل واللا شكل، بين الحقيقة والزيف.11 المعنى الذي يحمّله الفنان لعمله والمعنى الذي نستنتجه منه، هو ما يحمل مفاتيح مكانة العمل كفنّ.

من خلال استخدام الفن للإشارة الى إخفاق منظومة العدل أو إلى النفاق في الخطاب الإنساني، فبالنسبة لسلفيتي يتحول ذاك الشخص في ذاك الصندوق الى قط شيشاير لدى لويس كارول (Carroll)، الذي يتلاشى رويدًا رويدًا الى أن لا يتبقى منه سوى ابتسامته المعلقة في الأفق: العمل بالنسبة إلى سلفيتي هو عبارة عن نوع من الاستعادة، ودعوة للجمهور الى خوض التجربة الفنية، التساؤل والقرار إذا ما كان المشاهد يشعر بالتسلية أم بالاساءة.

 

كان العرض الأدائي لربيع سلفيتي جزءًا من "منصة بيراميدا" (قيّمة: غاليا بار أور)، وقد عُرض من 19 حتى 26 تموز، 2018، في بيراميدا – مركز للفنون المعاصرة، حيفا.