مجهولية جديدة: عن صوفي كال وإدوارد سنودن

قرار الحكومة إزالة الهواتف العامة من الحيّز العام في إسرائيل دفع حجاي أولريخ للتفكير في إمكانيات الحرية الجديدة التي تطرحها صوفي كال، والتي تتكشف في أعقاب إدوارد سنودن

Advertisement

 "تخيلوا، لو تسنى هذا، أنه يمكننا الاستيقاظ كل صباح واختيار اسم جديد ووجه جديد نُعرّف بهما في العالم (...) وصوت جديد وكلمات جديدة لنتحدث بها (... ) كأن هناك زر إعادة تشغيل لحياتنا".
(إدوارد سنودن)1

في 9 تشرين الثاني من هذا العام، وقّع وزير الاتصالات الإسرائيلي على أنظمة لإزالة الهواتف العامة من الحيّز العام في إسرائيل. اعتبارًا من 1 كانون الثاني 2022، لن يتم تركيب المزيد من الهواتف العامة الجديدة، كما سيبدأ تفكيك بعض الهواتف. مؤيدو القرار في لجنة الاقتصاد التابعة للكنيست عرضوا المسألة كجزء من "التقدّم"، وزعم ممثل اللجنة أن الأمر "سيتيح إزالة مخاطر بيئية من أرجاء المدن".

ذكرتني هذه المقارنة بين هاتف عمومي وخطر بيئي باستيلاء صوفي كال (Calle) على كشك هاتف عام عند زاوية شارعي غرينتش وهاريسون في نيويورك، في أيلول 1994. قامت كال بتركيب أشياء مختلفة في الكشك: كراسي قابلة للطي، سجائر، منفضة سجائر، نقارش، مناديل ورقية، مشط، مرآة، مجلات موضة، دلو من الورود الحمراء ولافتة مع التمني Have a nice day! (أتمنى لك نهارا سعيدا).2 نظفت الكشك كل يوم لمدة أسبوع، تتابع ما يجري فيه، تنصتت على المحادثات الهاتفية التي جرت فيها، تحدثت إلى الذين أجروها، ووثقت كل شيء بواسطة التصوير والكتابة. وقد كشف التوثيق عن ردود فعل مختلفة: إلى جانب لامبالاة بعض المارة، كانت هناك حيرة لدى آخرين، وكذلك اتهامات بتخريب الممتلكات العامة - مما دفع شركة الهواتف AT&T إلى تفكيك هذه البؤرة الاستيطانية.

الدافع للفعل الذي تحوّل في النهاية لكتاب الفنانة (Gotham Handbook)، بدأ بمجموعة من تعليمات التشغيل بعنوان Instructions for Embellishing Life in New York (تعليمات لجعل الحياة في نيويورك أكثر جمالًا)، والتي قدمها الكاتب بول أوستر إلى كال كجزء من حوار إبداعي مستمر بينهما، حيث دمج ما بين بين الواقع والسردية والسيرة الذاتية. كان يتوجب على كال أن تختار مكانًا في المدينة وتفكر فيه على أنه خاص بها، تحت مسؤوليتها، وأن ترى ما يمكن أن تتعلمه منه عن العلاقات الاجتماعية، وعن الناس وعن نفسها.

 

copyright claim2.jpg

صورة شاشة لمسح ضوئي لصفحتي 281-282 من  Double Game, 1999، كتاب صوفي كال وبول أوستر، إصدار  Violette

صورة شاشة لمسح ضوئي لصفحتي 281-282 من Double Game, 1999، كتاب صوفي كال وبول أوستر، إصدار Violette

 

تتبنى كال في ممارستها الفنية أساليب المراقبة والتجسس: نشاطًا سريًا، اختراع شخصيات خيالية، تحقيقًا سرّيًا، تنصتًا، إحضار أدلة مصورة، وتسجيل ملاحظات. وهي تخرج بمساعدتها من داخل حيّز عام إلى تدخّل يقتحم الحياة الخاصة للناس، أو حياتها الخاصة. في عملها الظل (The Shadow) من العام 1981، على سبيل المثال، طلبت من والدتها استئجار خدمات محقق لملاحقتها وتوثيق جميع أفعالها، بل أرسلت شخصا ليلاحق المحقق ويوثقه هو أيضًا؛ في العمل دفتر عناوين (Address Book, 1983) اتصلت بجميع الأشخاص الذين وردت أرقام هواتفهم في ذلك الدفتر الذي زعمت أنها عثرت عليه في الشارع، ونشرت النتائج التي توصلت إليها بشأن صاحب دفتر العناوين في مقالة صحفية.3

في نفس العام، 1994، كان عمر إدوارد سنودن4 (Snowden) عامًا - وهو عميل سابق في CIA و-NSA (وكالة المخابرات المركزية ووكالة الأمن القومي الأمريكيّتان) واليوم لاجئ، كشف في حزيران 2013 أن الولايات المتحدة وعددا من حلفائها قد بنوا منظومة للتنصت والمراقبة والتجسس على مواطنيهم - في تلك السنة وما بعدها كان قد بدأ يتعلم بنفسه استخدام تقنيات البرمجة وأجهزة الحاسوب والإنترنت التي بدأت تصبح شائعة. يصف سنودن الإنترنت في التسعينيات على أنه ملعب مفتوح يسمح بالمساواة المطلقة لكل شخص. يمكن لأي شخص إعادة خلق نفسه والتعبير عن نفسه بحرية بدون عواقب. كان يمكن أن نرتكب "أخطاء" عبر الإنترنت، (مقولات محرجة، مهاترات، صور محرجة، نزاعات كلامية، وأيضًا أعمال قرصنة) من دون أن يكون الخطأ مرتبطًا بهويتنا ومسجلًا ضدنا.5 بنظر سنودن، كانت هذه طريقة الحياة الصحية والصحيحة لتطور ونمو الأطفال، لأن الفصل بين الهوية القانونية والشخصية أو الصورة الرمزية يمكّن الأطفال (والكبار أيضًا) من تطوير حسّ النقد وتعلم تحدي الآراء المكتسبة، دون أن يعاقب الشخص بواسطة فضحه أو إخجاله. كانت المجهولية عبارة عن منصة لإضفاء مرونة على الآراء، التعلم والتطور الشخصي وغير المتبجّح، والتي يمكنها أن تغير المواقف بدلاً من التمترس فيها بحجة الدفاع عن النفس أو الحفاظ على السمعة الحسنة - وهي ظواهر يخلقها الظهور العام.6 

 

unnamed.jpg

غلاف Permanent Record، السيرة الذاتية لإدوارد سنودن ، 2019 ، دار النشر Macmillan
غلاف Permanent Record، السيرة الذاتية لإدوارد سنودن ، 2019 ، دار النشر Macmillan

 

صحيح أن سنودن وكال تصرفا بدوافع مختلفة تمامًا، بطرق مختلفة، ولكن توجد لأفعالهما إلى حد كبير عواقب متشابهة - رفض لمعايير وقيم وقوانين اعتدنا أن نأخذها كأمر مسلم به. بوصفه مسربًا لمعلومات عن التجسس غير المشروع (Whistleblower) من أجل حرية التعبير، التعلم، الشفافية، البحث، الفضول واللعب، استخدم سنودن تقنيات رقمية للتعقب والتجسس. في نظرة راهنة الى ممارسات التجسس اليدوية لدى صوفي كال، يمكن للمرء مقارنتها مع عواقب مشابهة لتلك الخاصة بسنودن. حين يتغير دور كشك الهاتف العام ويصبح صالونًا أو غرفة معيشة، أو موقعًا للمحادثات، أو، على النقيض من ذلك، أداة لمراقبة مواطنين، فإن المعايير والطرق التي تتشكل بها العلاقات والهويات التي تواصل ظهورها، تتوقف لبعض الوقت. هذا الإرجاء مشابه لما يحدث أثناء لعبة، أو في عملية بحث، أو في إنشاء صورة رمزية على الإنترنت. المجهولية، تقمص شخصية جديدة وفصل الهوية عن السلوك، تكشف عن أبعاد في حرية التعبير غير موجودة في الأدوار التقليدية - الجندرية، الطبقية، القانونية، القومية، والاجتماعية.

يجب أن يظل كشك الهاتف كشك هاتف. يجب أن تستمر ديمومة هويته واستخدامه، وإلا فإنه يصبح غريبًا وخطرًا بيئيًا. تغيير دور هذا الحيّز (كما يحدث في دفتر العناوين والظل أيضًا) الذي تقدمه كال، واقتراح السماح بالتعبيرات التي يبدو أنها لا تميزه بشكل معياري (أم تراقب ابنتها، مواطن يراقب محققًا سريًا، وامرأة تكشف تفاصيل شخص في صحيفة، كشك هاتف كمكان للقاء فعلي) والسماح بداخله لمنظومة علاقات فقط لا تستند أولاً وقبل كل شيء على الهوية والأدوار المقبولة علنًا والتي تكشف القوة التي تؤثر علينا دون علمنا، عندما يتم التعرف علينا (لأنه بعد ذلك، في معظم الحالات نتصرف وفقًا للدور أو القانون أو الحيّز أو بسبب الخوف من العقوبات أو بسبب السير في الثلم). تكشف أعمال كال عدم المساواة الجوهري في المجتمع، والذي يرتبط بالعلاقة بين هويتنا القانونية وسلوكنا والشخصيات التي نلبسها على أنفسنا. عدم مساواة سببه الافتقار إلى الحرية.

إن الربط المطلق بين الشخصيات الوهمية للمستخدمين عندما يكونون متصلين بالإنترنت وبين هويتهم القانونية في وضعية عدم الاتصال بالشبكة هو ما يصفه سنودن بأنه أكبر انعدام للمساواة في التاريخ الرقمي.7 مع بداية الألفية الجديدة، على حد تعبيره، بدأت الشركات والدول في استخدام الإنترنت لفرض الولاء بواسطة الذاكرة، لتكريس منهجية الهوية، وفي النهاية، للامتثالية الأيديولوجية. وقال إن التغيير جاء على عدة مراحل: بعد انهيار فقاعة التجارة الإلكترونية في أواخر التسعينيات، كانت هناك محاولات لإنتاج أرباح مالية بواسطة الطرق التي يتواصل بها الأشخاص مع بعضهم البعض عبر الإنترنت ومن حقيقة أن الناس يحبون مشاركة حياتهم الخاصة مع الآخرين. من أجل تحقيق الأرباح من الاتصال والمشاركة، كان من الضروري ربط الهوية القانونية وبطاقات الائتمان بالشخصية على الإنترنت، ومحاربة البرامج والمواقع المقرصنة لمشاركة الملفات وغيرها من تعابير المشاركة مجهولة الهوية. وهكذا بدأت "رأسمالية التتبّع" (Surveillance Capitalism)، التي تطورت في قنوات مختلفة وبطرق مختلفة وصولا إلى مركزية تشارك فيها شركات إنترنت خاصة وشركات ووكالات استخبارات تابعة للدول.8 وقد بنت معًا معمارًا استخباراتيا كونيا ومطلقا، يراكم معلومات من دون نقاش عام ولا نيل موافقة الجمهور. تم بناء هذا المعمار بطريقة أخفت عن الجمهور (بما في ذلك مشرعون وخبراء قانونيون وموظفو دولة)، عن قصد وخطأ، أي دليل على وجوده.9

في حزيران 2013، في سلسلة من المقالات التي نشرت في جريدتَي نيويورك تايمز وواشنطن بوست، كشف سنودن، بمساعدة غلين غرينفالد (Greenwald) ولورا بويتراس (Poitras)، أن الولايات المتحدة وحلفاءها بريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا (المعروفة أيضًا باسم Five Eyes alliance، تحالف "العيون الخمس")10 تقود عمليات تجسس واسعة النطاق على مواطنيها (بالإضافة إلى مواطني دول أخرى وكبار المسؤولين من دول أجنبية، بمن في ذلك المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل). لقد أثبت سنودن أن وكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA)، وعلى الرغم من نفيها، قادرة على التنصت والحصول على أي معلومات ترغب في الحصول عليها من خوادم الإنترنت، والأقمار الصناعية وكوابل الألياف البصرية التي تمر تحت الماء وأنظمة الهواتف المحلية والأجنبية وأجهزة الكمبيوتر الشخصية. وكالة الأمن القومي كانت قادرة في عام 2013، على إحصاء مليارات المكالمات الهاتفية ورسائل البريد الإلكتروني التي تمر عبر الشبكة كل يوم،11 واعتراض مكالمات معينة منها كانت مهتمًة بها. بالإضافة إلى ذلك، تتلقى الوكالة معلومات شخصية (بما في ذلك المكالمات الخاصة) مباشرة من شركات الإنترنت ( Google و Yahoo و Microsoft و Facebook و Apple و YouTube وغيرها)، 11 وتعرف كيفية تعلم عادات تصفح الشبكة، وكذلك جمع المعلومات الأولية المسبقة (من يتواصل مع من ومتى وأين وكم من الوقت تواصل وعدد المرات). تم تسجيل جميع المعلومات وتخزينها وجعلها متاحة للاستخراج في أي وقت.

 

CITIZENFOUR - Official Trailer

Trailer for Citizenfour, Laura Poitras's documentary about Snowden, 2014, Madman Films
 

Joe Rogan Experience #1368 - Edward Snowden

Edward Snowden interviewed on the Joe Rogan Podcast, The Joe Rogan Experience #1368 , October 2019
 

 

تم تلقي دليل مقلق آخر على معمار التجسس العالمي ورأسمالية التتبّع في عام 2017، مع نشر Vault 7 على موقع التسريبات ويكيليكس WikiLeaks. فقد تم كشف كمية هائلة من المستندات، حتى أكبر من تلك التي نشرها سنودن، من خلال تسريبات مجهولة الهوية وأثبتت، من بين أمور أخرى، أن وكالة المخابرات المركزية CIA لديها قدرات قرصنة واقتحام غير محدودة تقريبًا لأي جهاز مزوّد بتقنية ذكية: يمكن لأي جهاز حاسوب أو هاتف ذكي أو تلفاز ذكي أن تصبح جهاز استماع وتنصّت، بالصوت وبالصورة.12

أما بخصوص دولة إسرائيل، فإن التعبيرات لمعمار التجسس والمراقبة للمدنيين داخل الخط الأخضر ليست قليلة، وقد تلقت مؤخرًا عددًا من الأدلة عليه، مثل منظومة التنصت لدى الشاباك (جهاز الأمن العام) في حالة الطوارئ التي تتم تعريفها أمام جائحة فيروس كورونا، ومثلما تم الكشف مؤخرًا في تحقيق صحيفة كلكاليست بعنوان "سيغينت" (بالعبرية اختصار لـ استخبارات إشارات)، فإن قسم الاستخبارات الإلكترونية والتكنولوجية لشرطة إسرائيل، "يستخدم برنامج التجسس Pegasus التابع لشركة NSO لاختراق هواتف مواطنين إسرائيليين عن بُعد دون أوامر تجيز البحث أو التنصت".

يبدو أن مجهولية الهوية، في وضعة الأمور هذه، هي أمر على وشك الاختفاء من العالم إلى جانب الهواتف العامة والخطوط الأرضية وذلك باسم سردية التقدم. ولكن بالنسبة للفيلسوف جوفروا دو لاجانري (de Lagasnerie)، فإن المجهولية التي عمل بواسطتها سنودن، ورفضه قبول قوانين الدولة (التي تستخدم استراتيجية "حالة الطوارئ" الواقعة خارج القانون لانتهاك قوانينها نفسها) واختياره العثور على ملاذ، هي بالضبط تعبيرات تشكل ذاتًا جديدة. وقد وجد هذه الذات الجديدة أيضًا في الشخصيات الأخرى التي تصرفت بطرق مشابهة، حتى لو كانت بدوافع مختلفة. على سبيل المثال، جوليان أسانج (Assange)، الصحفي والناشر ومؤسس ويكيليكس، القابع حاليًا في السجن في بريطانيا، ويخضع لإجراءات قانونية بغية تسليمه إلى الولايات المتحدة بعد اتهامه بانتهاك قانون التجسس الأمريكي من العام 1917. (Espionage Act of 1917 ). الفيلسوف يشير كذلك إلى تشيلسي مانينغ (Manning)، جندية سابقة في الجيش الأمريكي زُجّ بها في السجن بين عامي 2010 و 2017 لتسريبها وثائق عسكرية، بعضها مصنف كسريّة، على موقع ويكيليكس. وكان من بينها مقطع فيديو بعنوان "القتل الجماعي" "Collateral Murder"، يوثق القتل العمد لمدنيين عراقيين واثنين من مراسلي وكالة الأنباء رويترز بالرصاص من مروحية أباتشي في تموز 2007. ويشير أيضًا أن "أنونيموس" (Anonymous), وهي مجموعة نشطاء قراصة تعمل بشكل لا-سلطوي، بدون تعريف أو خطوط عريضة أو وحدة أو هوية.

 

Assange_speech_at_Ecuador_embassy 2223.jpg

من اليمين: جوليان أسانج يلقي خطابا من شرفة سفارة الاكوادور في لندن، آب 2016. من اليسار: تشلسي مانينغ في مظاهرة، 2018 تصوير أسانج:  Wl dreamer Creative Commons Attribution-Share Alike 3.0 تصوير مانينغ: Manolo Luna Creative Commons Attribution-Share Alike 4

من اليمين: جوليان أسانج يلقي خطابا من شرفة سفارة الاكوادور في لندن، آب 2016. من اليسار: تشلسي مانينغ في مظاهرة، 2018
تصوير أسانج: Wl dreamer
Creative Commons Attribution-Share Alike 3.0
تصوير مانينغ: Manolo Luna
Creative Commons Attribution-Share Alike 4.0

 

في كتابه (The Art of Revolt: Snowden, Assange, Manning (2017, يذكر دو لالنجري مثال الرسام إدوارد مونيه والثورة الانطباعية، والتي، وفقًا لعالم الاجتماع بيير بورديو (Bourdieu)، حددت ذاتًا جديدة تطورت أمام المؤسسات الاجتماعية الفرنسية في القرن الـ19 - الانسان كفنان. في عصرنا، تكوين نفسك كذات مجهولة، بنظر لانجري، يعني المطالبة بإمكانية التصرف دون الالتزام بكشف هويتك ودون أن تكون مسؤولاً عن الأفعال التي تنتفض على القوانين التي لم توافق على قبولها، قانونيًا وأخلاقيًا. بكلمات أخرى، هذا يعني التملص من الطريقة التي تربطنا بها السلطة بما نفعله.13 إن مجهولية الهوية - الفصل بين الشخصية الخيالية وبين الشخصية الرمزية والشخصية القانونية - ترمز إلى احتمالات للحرية ولكنها أيضًا إعادة تفكير في الأنماط القمعية التي ورثناها. إنها تدعونا إلى تخيل علاقات أخرى مع القانون، الدولة والمواطنة.14

 

re:publica 2016 – Geoffroy de Lagasnerie: The art of revolt. Snowden, Assange, Manning

Geoffroy de Lagasnerie lecturing about The Art of Revolt: Snowden, Assange, Manning at re:publica conference in Berlin, May 3, 2016
 

 

في نظرة إلى الوراء، يبدو أن صوفي كال تصرفت بطرق مماثلة تمامًا. عند تغيير وظيفة كشك الهاتف أو دفتر عناوين الهاتف، تطرح كال أسئلة حول الأشكال المختلفة لعلاقات القوة الاجتماعية وحول الطرق التي تتشكل بها منظومات علاقات تكرّس سردية تبدو طبيعية ومقبولة ومتفقًا عليها. في عمل كشك الهاتف، تصرفت مثل قرصانة تقتحم منظومات معينة من أجل الكشف عن هشاشتها وعدم الشرعية في صلبها. أداء هذه المنظومات يصبح واضحًا، وكذلك المثابرة المطلوبة في سلوكها لإقناعنا بهويتها ودورها. في دفتر العناوين، "سربت" كال محتوى شخصيًا عن شخص غريب، وبالتالي كشفت الأذيّة الموجودة في تكنولوجيا المراقبة داخل النظام الأبوي في عصرها.

بالنسبة لسنودن، لا تكمن المشكلة في التكنولوجيا نفسها، ولكن في الاستبداد التكنولوجي وعدم المساواة الذي أصبح ممكنًا بسبب جهل (نقص المعرفة والسذاجة) لدى أي شخص يستخدمها على أساس يومي ولكن لا يعرف ولا يفهم كيف تعمل ومن تخدم، وبأي طرق تنسجم مع سردية متفرّدة لا تمنح الآخرين حرية التعبير عن أنفسهم بشكل مختلف. إن رفض تعريف نفسك بما يتعلق بالتشغيل الأساسي للمعدات التي تتعلّق بها وتعتمد عليها يعني القبول الفعلي، بشكل خامل، لهذا الاستبداد والموافقة على شروطها، كما يدعي سنودن.15

في مثل هذه الحالة، يعد تفكيك الهواتف العامة التي يمكن للجميع الوصول إليها في أي وقت مظهرًا آخر للانتقال إلى منظومة اتصال مركزية، مقوننة، خاضعة للسيطرة، لا يفهم معظمنا كيفية عملها، ولا تقدم بديلاً لوسائط الاتصال أو إمكانية المهاتفة سرًا بقطعة معدنية أو بطاقة هاتف. السؤال الذي يطرح نفسه، هل هذا أيضا يبشر بنهاية المجهولية، ومعها نهاية حرية التعبير كما عرفناها.

 

 

المجهولية مهمة للغاية في مجتمع حر. إنها تجلب المزيد من الناس إلى العمل الناشط وتسمح أيضًا لأولئك الذين لا يعرّفون أنفسهم بأنهم سياسيون بالتصرف في لحظة معينة والخروج والتظاهر. في حالات الانفصال الوهمية التي خلقتها، تمكنت كال من الهروب من استحالة التعبير عن نفسها بحرية. وفقًا لدو لانجري فإن المجهولية والوهم يسمحان بتوزيع ونشر مواقع المظاهرات والاحتجاج بنفس الطريقة التي يمكن بها لأنونيموس، أو على نحو مختلف ويكيليكس، من تجميع أفراد مجهولين، لا يعرفون بعضهم البعض، من اجل هدف معين. الذات المجهولة الجديدة تعرف كيف يصدر صوتها وادعاها ثم تختفي أو تهرب.16 هذا مشابه لدافعية كال وأوستر، اللذين اجتمعا معًا كأفراد لجعل الحياة في نيويورك ألطف، لتغيير أداء ومظهر الحيز العام وإنتاج روابط جديدة، ثم الذهاب في حال سبيلهما. كان يمكن لـ كال القيام بالفعل في كشك الهاتف بمجهولية، بكونها غير خاضعة لقانون، هوية، وامتثالية اجتماعية ومعيارية. لكن شركة الهواتف رأت في هذه الدافعية تخريبا للمتلكات العامة وخطرا بيئيا.

وفقًا لـ دو لانجري، عمليًا، بفضل سنودن، أسانج، مانينغ، ويكيليكس وأنونيموس، نحن نشهد ولادة فئة سياسية جديدة لأفراد، لا يتم تحديدهم من خلال عضويتهم في دولة أو أمة أو إقليم، بل من خلال المجتمع الذي اختاروه بأنفسهم.17

  • 1. Edward Snowden, Permanent Record. London: Macmillan, 2019, ISBN: 978-1-5290-3567-4, p.47. الاقتباس من ترجمة كاتب المقال. ترجم الكتاب للعبرية عمنوئيل لوطم تحت عنوان الحقيقة وقد نُشر عام 2019 في يديعوت سفاريم.
  • 2. Sophie Calle and Paul Auster, Double Game. London: Violette, 1999, p.246.
  • 3. Nicole Miller, “Following Sophie Calle”, Hyperallergic, June 18, 2016. https://hyperallergic.com/305869/following-sophie-calle/
  • 4. Laura Poitras and Barton Gellman, “U.S., British intelligence mining data from nine U.S. Internet companies in broad secret program”, The Washington Post, June 7, 2013 https://www.washingtonpost.com/investigations/us-intelligence-mining-data-from-nine-us-internet-companies-in-broad-secret-program/2013/06/06/3a0c0da8-cebf-11e2-8845-d970ccb04497_story.html
  • 5. هامش رقم 1, سنودن، المصدر نفسه، صفحة 47-48.
  • 6. المصدر نفسه، صفحة.
  • 7. المصدر نفسه، صفحة 46-47.
  • 8. المصدر نفسه، صفحة 4-5.
  • 9. المصدر نفسه، صفحة 7.
  • 10. Glenn Greenwald, No Place to Hide: Edward Snowden, the NSA, and the U.S. Surveillance State. London: Penguin, 2015. ISBN: 978-0-241-96900-7, p. 30. كشف سنودن أن هناك تعاونا وثيقا بنفس القدر تقريبًا بين الولايات المتحدة وإسرائيل، إن لم يكن أقرب برأي غرينفالد، إذ أنه وفقا لكشوفات سنودن، تنقل الولايات المتحدة الى إسرائيل على نحو منهجي معلومات استخباراتية حول مواطنين أمريكيين، دون إجراءات لفحص المعلومات المطلوب وفقا للقانون. غرينفالد ص 102.
  • 11. المصدر نفسه، صفحة 88-89.
  • 12. Vault 7: CIA Hacking Tools Revealed, WikiLeaks, March 7, 2017 https://wikileaks.org/ciav7p1/
  • 13. Geoffroy de Lagasnerie, The Art of Revolt: Snowden, Assange, Manning. Stanford: Stanford University Press, 2017, ISBN: 9781503600010. p.82.
  • 14. المصدر نفسه، صفحة 10.
  • 15. هامش رقم 1, سنودن، المصدر نفسه، صفحة 28.
  • 16. هامش رقم 13, دي لنغري، المصدر نفسه، صفحة 56-58.
  • 17. المصدر نفسه، صفحة 71.