مشهدية "لحظة اللحظة" عند فرقة داها واسا
من هي فرقة "داها واسا" المسرحيّة، وما هي قاعدة رؤيتها المسرحيّة التجريبيّة؟ تقدّم فتيحة نوحو حوارًا مع مخرج الفرقة أحمد حيمود حول رؤية الفرقة ومشروعها المسرحيّ التجريبي، وتواصل الحوار مع الممثلة النرويجيّة في نفس الفرقة إنيا ساترن والحديث حول علاقة السياسة بالفنّ المسرحيّ والرسالة من وراء مشروع فرقة داها واسا.
"نود تحرير الممثل من عكاز النص". هذه نقطة ارتكاز الفرقة المسرحية المغربية داها واسا التي انبثقت نواتُها من ورش حرّة للأنشطة الموازية بالمعهد العالي للفنّ المسرحيّ والتنشيط الثقافي بالعاصمة الرباط في سنة 2005 لمجموعة من عاشقي الركح، ليضحوا محترفيه ويبدعوا عدة أعمال منها: "متفرج محكوم عليه بالإعدام"، "تمارين على الثورة"، "بلاسمية" وغيرها من التجريبيات الركحية.
و "داها واسا " باللغة الامازيغية تعني "هنا الآن" وهي التي اتخذت من محراب التجريب صهوةً للحلول في الآنيّ أثناء لحظة الهنا بدون الاعتكاف في الديمومة، محملة بزاد الزوال الشديد الأثر في الآتي.
في حواره معنا يتحدث مخرج الفرقة أحمد حيمود عن كون العرض ليس الهدف، بل الممثل الذي هو مركز الفكرة وينشد من تمرينه الدؤوب والمستمر والمكثف كيفية الخروج من مأزق اللحظة، لذا تسعى الفرقة دائما إلى تمديد الاقامات الفنية أو العمل خارجها بحصص ودورات تكوينية واستدعاء تجارب التي تسير وفق رؤيتها.
كان اللقاء بمناسبة العمل الجديد للفرقة الذي هو عبارة عن "وومن شو" بعنوان "عشاقي"، وذلك بالمسرح الوطني محمد الخامس بعاصمة المغرب الرباط والذي أدته الممثلة النرويجية إنيا ساترن ذات المسار السياسي أكاديميًا ومهنيًا، والتي حاورناها حول كيفية الجمع بين الفن والسياسة وعن دورها في سلسلة الهلال الخصيب مع المخرج الإسرائيلي عوديد رسكين الذي صوّرت الكثير من مشاهده بالمغرب.
جاهزية العرض
ف.ن: كيف أنشئت الفرقة المسرحية داها واسا، وهل تعتبر نفسك قائدها؟
أ. ح: كنّا مجموعة فنانين التقينا في المعهد العالي للفنّ المسرحي والتنشيط الثقافي بالعاصمة الرباط. جمَعَنا نفس الاهتمام المسرحي والرؤية الفنية، وكنا نقوم بأنشطة موازية بالمعهد فبادرتُ بالاقتراح بإنشاء نواة نسميها داها واسا نمارس فيها تصوراتنا الفنية. كان ذلك عام 2005، واستأنفنا التجربة حتى بعد التخرج، وبدأ مشروعنا الفنيّ بالتوسع، لكن ليس لي أيّ فضل عليها، ليست هناك هرمية في الفرقة بل نحتكم للسلوك الذاتي، هذا من جهة.
من جهة أخرى، فإنّ الإخراج هو أيضًا خارج العملية المسرحية لذا فالاشتغال بثنائية الآن وهنا تخلص للحظية العرض. عملنا ليس عملية إعادة بناء العرض وإنما لنكون جاهزين أثناء العرض وفي لحظة العرض، أحيانا كثيرة أكسر وأهدم العملية الاخراجية أثناء العرض حتى يعتمد الممثل على قدراته.
ف.ن: يتضح أن داها واسا لا تتوخى إيصال الفرجة فقط بل تستند على فلسفة فنية أبعد، فأين يصل سقف طموحها؟
أ. ح: أكيد، هناك فلسفة لداها واسا ألا وهو الحفاظ على دربة البحث وشعلته دون تقييدها او انحصارها بتقديم العروض، فهو تحضير دائم للممثل وتطوير ميكانيزمات أدائه والتنقيب عن الأسئلة المرتبطة بالمسرح والتي ترتكز على عنصرين هامين: الممثل والجمهور لأنهما كنهُ وركنا الممارسة المسرحية، فيما كلّ العناصر الأخرى تأتي من خارج المسرح. مثلا، النص يأخذ من الأدب والكتابة عموما، السينوغرافيا مستمدة من التشكيل وغيرها من مفردات أخرى، لذا نشتغل على الممثل جسدًا وصوتًا، فضلا عن العمل على تنشيط وتحفيز الذاكرة الملموسة والمحسوسة أو العاطفية وذلك لتطوير الطاقات الصوتية والتخييل وحدس الارتجال عنده، ليس فقط لشد انتباه الجمهور بل لخلق تواطؤ معه من خلال مساءلته التفاعل معه والدخول معه في محاورة لإشراكه في العمل بهدف إنشاء ذاك التحالف الايجابي وذلك على حساب العناصر الأخرى للعرض.
مثلا في مسرحية "المتفرج المحكوم بالإعدام" المقتبسة من نص الدراماتوجي الروماني الفرنسي ماتيي فسنييك يتم اختيار أحد المتفرجين عشوائياً وتتم إدانته بجرم ويحاكم أمام عدالة مهزلة التي يتضح أنها مجرد حفلة تنكرية.
ف.ن: ما هي الرسالة أو الرسائل التي تودّون تمريرها عبر مشروعكم المسرحيّ؟
أ .ح: لدينا إشكالات فنية يجب حلُّها، ،فالفنّ ليس وسيلة، هو غاية في حد ذاته بالنسبة لداها واسا. يجب أن يتعالى الفنّ على النفعية، فَكُلّ ما يقوم به الإنسانُ ينشدُ به منفعة ما، إلا الفن يجب أن يبقى طاهرًا من هذه اللوثة.
الفنّ ينطوي على أسئلة عميقة يجب أن نذهب نحوها ونشتغل عليها، أن نتحسّسها. أما بالنسبة للرسالة التي يودّ تمريرها يكفي أن تُرسل رسالة قصيرة عبر الخلوي دون الاضطرار لعرض وحضور المسرحية.
في تقديري أن الرسالة أمرٌ ثانوي في الفن الذي نكتسب من خلاله الكثير من القيم المعارف والخبرات وكيفية صياغة أسئلة لا متناهية. يجب ترك الفن يقوم بدوره وبعمله بدون خندقته في سياقات معينة لأنه أوسع وأشمل. والأهم من كلّ هذا هو التمكّن من الفنّ وممارسة الفنّ لأنه هو سيّدٌ عظيم كالإله، فعبر التاريخ استُغل الفن لأهداف أخرى دينية سياسية إيديولوجية، فيما يجب أن يبقى مستقلا بذاته ليعكس صورتَنا الحقيقية بدون تشويش من مصوغات دخيلة.
ف.ن: "بلاسمية أو بدون اسم"، عرض جماعي لم يعتمد على أي نص، ومن ثم ضمن عروض جماعية عديدة، قدمتم مونودراما تحت عنوان" سيلفي" من تشخيص نعيمة أولمكي التي لم تمارس التمثيل من قبل والذي يحكي قصة امرأة تتوزع بين مجتمع يتأرجح بين الحداثة والتقليد. وآخر عرض، "عشاقي" كان مع الممثلة النرويجية أنيا ساترن على شكل "وومن شو". هل يمكن أن نعتبر داها واسا مختبرًا تجريبيًا أدائيًا؟
أ.ح: نحن في داها واسا فعلا داخل مختبرات تجريبية متواصلة، فمثلا في عرض "بلاسمية أو بدون اسم"، كانت مغامرة تعتمد بشكل أساسي على فكرة عدم الفكرة، والتي هي في رأيي جوهر أي ممارسة روحية.
كان التركيز على الجسد و الصوت بدون كلمات. سبعة أصوات تتجول في دواخلها زاهدة بالأنا غير آبهة بأيّ اسم، سبعة أصوات عميقة مصحوبة بصوت منوّم عبر رحلة روحية دعونا فيها الجمهور لاكتشاف والتفاعل مع قبيلة بدائية من جميع أنحاء المعمور، الذي ينتقل من إيقاع الملل وفراغ الحياة اليومية من الخط المستقيم إلى الدائرة، من الفراغ إلى الفداء، من الملل إلى الحب، مسترشدًا بسبعة مسارات تسترشد بنور الصدفة وسحر الحاضر.
لهذا يبقى الممثّل الرّكن الأمثل في العملية المسرحية، لا نأبه بالإكسسوار أو الديكور أو السينوغرافيا، نجرده من كلّ هذه الأشياء ونبدأ باقتراح من الممثل لأدائه "لابرفورمونس" ومن خلاله نشكّل الأداء البدنيّ والجسديّ ويطلب منه أن لا يعيد نفس الشيء ولا يكرّر حتى عند العرض. يبقى حرًا ووفيًا للّحظة، لا يمكن أن نكون خارج اللحظة لأداء اللحظة. الأهم كيف يمكن للممثل أن يكون مستعدًا للحظة، نشتغل أيضا مع غير الممثلين كما في تجربة المونودراما بعنوان "سيلفي "مع نعيمة أولمكي لنبحث عن أداء بكر خام ، لنرى ونعاين كيف يبدأ الأداء؟ وأين يبدأ؟ ونشتغل أيضا مع جمهور الذي لم يرَ من قبل مسرحا لندرس كيف يشاهد ويستقبل الأداء لأول مرة.
عُشّاق إنيا
قدمت داها واسا في العشرين من كانون الأول الجاري على خشبة المسرح الوطني محمد الخامس بالعاصمة الرباط العرض ما قبل الأول ل "وومن شو" تحت عنوان عشاقي والتي أدته الممثلة النرويجية إنيا ساترن، والتي تكشف لنا في هذا اللقاء عن دواعي ممارستها للمسرح وولعها بالسياسة:
ف.ن: ما سرّ هذه التوليفة بين المسرح والسياسة؟
إ.س: بدأت ممارسة المسرح الغنائي منذ عمر السادسة بالمدرسة لأتجاوز خجلي، كنت خجولة جدا، إذ هناك الكثير من الممثلين خجولين في حياتهم لكن فوق الخشبة تتفاجأ بتشخيصهم الجريء، وفعلا المسرح غيّرني وغيّر مساري الشخصيّ وفتح لي الكثير من الأبواب وعبر بي نحو توجهات أخرى.
لكن في عمر العشرين توقفت أو غادرت الركح لأنعطف نحو مجال آخر هو دراسة العلاقات الدولية بجامعة اوسلو. من ثم ذهبت لباريس لأدرس تخصص العلوم السياسية، واشتغلت بعدها بوزارة الخارجية النرويجية، عملت في برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة في نيبال مع مجموعة الأمن الغذائي. وعندما وصلت للنيبال وقعت الهزة الأرضية العنيفة وكانت إقامتي هناك بدار الفن وكان الاحتكاك بشكل يومي مع الفنانين. لذا أردنا انا وصديقي التخفيف عن الساكنة عبر مسرح الشارع وقمنا بمسرحية تحكي على لسان الحيوانات عن الكارثة الطبيعية التي شهدتها المنطقة والتحدث عن معاناة المنكوبين بطريقة تكون اقل وطأة على نفسيتهم التي ارتعبت من تلك الهزة.
أعود للكيمياء التي تولف بين المسرح والسياسة، فالمسرح يعلم طريقة وأسلوب الحديث أو الكلام وأيضا الحضور والتفاعل مع الجمهور والتواصل مع الآخر والسياسة هي فعل التواصل مع الناس، وهذا للأسف الذي يفتقده سياسيونا، هناك انفصال تام بين النخب والشعب لان هذه النخب لا تجيد الإنصات والتواصل فعلى أهل السياسة القيام ببعض من الحصص في المسرح ليكتسبوا آليّتَي التواصل والتفاعل والاصغاء لنبض الشارع.
لذا أشعر شخصيًا أنني في حاجة لممارسة الاثنين، فبعد تجربة النيبال وبما أن اهتمامي بالبحث انصب حول موضوع الهجرة، لذا جئت إلى المغرب واشتغلت كمستشارة اقتصادية لسفارة النرويج، رغم أنني مولعة بالسياسة واشتغل بمجالي ومارست السياسة في الحزب الاشتراكي النرويجي لكن لم أكن أشعر بالامتلاء، كان ينقصني شيءٌ حتى التقيت بالمخرج أحمد حمود منذ سنة تقريبا، و بدأنا التحضير لهذا العمل. بما أن وقتي لا يسمح كثيرا لعملي مع السفارة، تركتُها لأتفرغ للتمثيل.
ف.ن: انتقلت لمجال آخر في التمثيل غير المسرح. حدثينا عن هذه التجربة؟
إ.س: اشتغلت كممثلة في سلسلة بعنوان الهلال الخصيب مع المخرج الإسرائيلي عوديد رسكين. هو عمل يتحدث عن حركة المقاومة للنساء الكرديات وينجز بتعاون بين شركة هولوو الامريكية ARTE.
صوّرنا عدة مشاهد بالمغرب بمناطق ومدن كمراكش وأمزيز، وستكون مجموع الحلقات ثمانية بلغات متعددة: العربية الكردية الفرنسية الانجليزية وغيرها، وتحكي السلسلة قصة شاب فرنسيّ يبحث عن شقيقته الميتة وكان دوري هو إيفا هاس، الألمانية البالغة من العمر 28 عامًا والتي تغادر إلى سوريا لتلتحق بهده الحركة في سوريا من اجل قضية نبيلة، إذ ذاك سيتحالف الشاب مع نساء أكراد شديدات العزيمة وصلبة المقاومة محاربات لأجل الحرية. وسوف يشرعون معًا في رحلة عبر الأراضي التي تحتلها الدولة الإسلامية. للكشف عن المصير المهول للأبرياء ويقفون على حجم العنف والوحشية.
كانت التجربة بالنسبة لي غنية، فباحتكاكي بالممثلات الكرديات والتعرف عن قرب عن قضيتهن، انخرطت بشكل كبير ووجدتني أمارس المجالين معا التمثيل والسياسة فجمعت بين عشقين والتقاء بين اهتمامين. وفعلا هذه الحركة لاقت الكثير من التعاطف وأكثر، إذ هناك نساء أوربيات تأتين للالتحاق بهذه المقاومة واعتبارها حربهن وقضيتهن رغم أنهن في رقعة جغرافية بعيدة عنهن.
ف.ن:هل ثمة تقاطعات رؤيوية بينك و بين المخرج أحمد حمود خاصة أنكما قادمان من خلفية مسرحية مختلفة تماما ثقافيا؟
إ.س: ما أثارني في التصورات الفنية لأحمد حمود الوعي بالجسد. في النرويج هناك تقليد مسرحي يرتكز أكثر على النص والكثير من التأمل، فيما المخرج حمود يهمه الأداء، والتعرف على الجسد عبر تمارين مكثفة بدنية لتحرير الجسد وأيضا الاشتغال على الصوت الذي يتاح له في ثقافتكم استعمالات متعددة لا يخضع لضوابط أو حدود.
اشتغلنا على نص عشاقي معا كتبناه بناءً على بعض تجاربي الشخصية العاطفية. حاولنا رسم ملامح لشخصيتين إحداهما نرويجي والأخرى مغربي، اختزلنا الكاركاتيرات لنحصل على مقارنة ساخرة اكثر تكثيفا تضمر اختلافات بين الشرق والغرب في السلوك في البيئة مع التركيز على التضاد بين الاهتمام بالجانب الروحاني والبراغماتي، ولمسة حمود حتى في كتابة النص كانت لافتة بإضفاء كثير من الهزل على المواقف المشهدية.
كما تناول العرض الهجرة المعاكسة أو المعكوسة إلى المغرب لتوضيح أن الكثير من الغربيين يغتربون كمهاجرين اقتصاديين، فأنا جئت إلى المغرب لأجل العمل، وددنا في هذه النقطة بالذات التحسيس وتصحيح المعلومات حول فعل الهجرة، فكلنا نغترب لنبحث عن فرصة أفضل، فضلا عن الرغبة في التعرف على لغة الآخر، تقاليده وحضارته.