هذه القصة لا تقترب من نهايتها

"في فيلم اسبيريا، يتشابك بورتريه فنان منسي وعميل سابق في الاستخبارات السرية مع قصة شخصية تصف علاقة المخرجة مع جدها الآخذ بالتلاشي". حكيم بشارة يراجع فيلم هايدي موطولا الجديد الذي يكشف الهوية المزدوجة لجدها جاك موطولا- فنان إسرائيلي وعميل سري سابق في مصر.

Advertisement

في سنة 1953، كانت مصر ما زالت منغمسة في بناء نفسها كجمهورية جديدة، ذلك في أعقاب انقلاب عسكري أطاح قبل سنة بالملك فاروق (الأول) عن عرشه. حركة الضباط الأحرار التي سيطرت على الحكم تحت قيادة الجنرالين جمال عبد الناصر ومحمد نجيب رفعت علم القومية العربية ومقاومة الامبريالية، وأعلنت عن اصلاحات شاملة لعصرنة الدولة. في نفس الوقت، تصاعد التوتر بين مصر وإسرائيل تحضيراً لحرب ثانية بين الدولتين ستنفجر عام 1956 (سميت فيما بعد حرب السويس أو حرب سيناء).

في القاهرة، عمل في حينه شاب فرنسي ابن 33 عام، اسمه بيير لاموث، كمندوب مبيعات لأجهزة راديو لصالح الشركة النيويوركية جيماك للصناعة (Gemac Industries). الشاب المتأنق وصاحب الشعر الأسود اتقن العربية والانجليزية جيداً وكذلك العبرية- خفيةً. في أحد الأيام وهو يدخل البناية التي سكن فيها، لاحظ لاموث رجلين يقفان بجانب الدرج وينظران اليه بارتياب. دخل إلى شقته ونظر من خلال ثقب القفل. الرجلان اللذان كانا محققان في الشرطة المصرية راحا يحققان مع أحد جيرانه ويستفسران ان كان بائع أجهزة الراديو مواطناً إسرائيلياً. عندها فهم بأن أمره انكشف. خبأ بسرعة زجاجة صغيرة من الحبر غير المرئي داخل جهاز راديو، وتأكد من عدم ابقاء أي شيء يرمز للهدف الحقيقي الذي مكث في القاهرة من أجله. قبل أن يقتحم المحققان شقته بلحظة، انطلق من الباب، شوش انتباههم بمساعدة عربيته المتقنة واختفى داخل تاكسي مر من المكان صدفة. كان على وشك أن يتم القبض عليه في مطار القاهرة ولكنه نجح في الفرار ووصل سالماً إلى باريس. من هناك عاد إلى مدينته حيفا وإلى حياته السابقة كرسام اسمه الحقيقي: جاك (يعقوب) موطولا.

كشفت هذه الصورة الدراماتيكية للمرة الأولى في لحظة الذروة في فيلم اسبيريا، الجزء الأول: أخر يوم في القاهرة (Esperia, Part I: Last Day in Cairo, 2018)، وهو فيلم حفيدة بطل القصة، الفنانة هايدي موطولا (Motola) الذي عرض في غاليري فوروم بوكس (Forum Box Gallery) في هلسنكي، فنلندا. خلال الفيلم الذي صور في شقته في رمات غان، يقرأ موطولا مقتطفاتاً شعرية من مذكراته بالفرنسية، ويروي قصة مغامراته كعميل لل"موساد لعليا ب" في القاهرة، ذلك قبل أن يصبح رساماً مشهوراً في خمسينات القرن الماضي.

 

 

motola.jpg

صورة من "اسبيريا، الجزء الأول: آخر يوم في القاهرة"، فيلم هايدي موطولا (2018، 29 دقيقة، HD).  بلطف: هايدي موطولا.
صورة من "اسبيريا، الجزء الأول: آخر يوم في القاهرة"، فيلم هايدي موطولا (2018، 29 دقيقة، HD).
بلطف: هايدي موطولا.

يبدأ الفيلم بمنظر يطل على البحر المتوسط كخلفية لصوت جاك الذي يصف حلماً حلمه يتحدث فيه مع الله حول موته. في حلمه، يحكي جاك لله بأنه يطمح بأن يأتيه في قارب بعد موته. "حسناً"، يقول الله، "عندما تتوقف عن أخذ نفسك التافه سأحضرك الي بقارب. ستتجول بسكينة لبضعة أشهر ومن ثم تصلني". هذا الوعد بإجراء رحلة أخيرة خلف البحر يمثل سيرة موطولا الذاتية.

ولد موطولا في بورسعيد وترعرع في الاسكندرية متعددة الثقافات. هاجر اليهودي المصري إلى فلسطين عام 1935. في عام 1947 سافر إلى فرنسا ليدرس الفن في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة (École nationale supérieure des beaux-arts) في باريس وتعلم لدى الرسام التكعيبي أندريه لهوته (Lhote). في 1948 عندما اندلعت الحرب بين دولة إسرائيل التي اقيمت للتو وبين جاراتها، استدعي موطولا ابن ال-28 للانضمام إلى ال"موساد لعليا ب"، المعروف باسمه المختصر الموساد، وهو الاسم الذي يشار به اليوم إلى جهاز الاستخبارات الإسرائيلي فقط. تم تعيينه في مارسيليا التي حمل المهاجرون اليهود في مينائها على متن سفن وأرسلوا الى فلسطين. وكان الموساد قد نقل مكاتبه في ذلك الحين من أثينا إلى باريس، وأصبحت هناك حاجة لمتحدثي فرنسية مثل موطولا. في مارسيليا، التقى موطولا بزوجته غنيا، وفي نهاية 1948 قرر الاثنان الاستقرار في حيفا.

عند عودته الى البلاد، استدعي الفنان مرة أخرى لخدمة الموساد ولكن هذه المرة كانت قصيرة. "لقد استقال لأنه غضب عندما رأى كيف يفكك الموساد العائلات ويترك المتقدمين في السن بالخلف"، تقول السينمائية في حديث مع مجلة توهو، وتضيف فيما بعد بأنه تم استدعاء موطولا مرة أخرى لمهمة في مصر. "لأنه استصعب ايجاد عمل في حيفا، فقد قبل هذه المهمة". وامتدت هذه حوالي العام وانتهت بفشل كان مؤشراً على نهاية سيرته المهنية في الاستخبارات السرية.

في السنوات التي تلت، أصبح موطولا رساماً حديثاً ناجحاً عرضت أعماله في الجاليريهات الى جانب مجايليه المشهورين أمثال حاييم سوطين (Soutine) ومارك شاجال (Chagall). أعمال موطولا من تلك الفترة تدمج بين ما تعلمه من المدرسة الباريسية وبين الواقعية الاشتراكية التي ميزت الفن الإسرائيلي في خمسينات القرن الماضي. الكثير من لوحاته تصور لحظات من الحياة اليومية، مثل أناس يسافرون في الباص أو يسبحون في البحر. أما الأن، بعد عشرات السنوات من ذروة حياته، فقد أضحى موطولا رساماً عرضياً يرسم الأشجار خارج نافذته بقلم، كما يمكن أن نرى في أحد مشاهد الفيلم.

 

Jacques Motola, Dance, date unkown..jpg

جاك موطولا، رقصة (تاريخ غير معروف)  بلطف: هايدي موطولا
جاك موطولا، رقصة (تاريخ غير معروف).
بلطف: هايدي موطولا.

Jacques Motola, Haifa, date unkown..jpg

جاك موطولا، حيفا (تاريخ غير معروف)  بلطف: هايدي موطولا
جاك موطولا، حيفا (تاريخ غير معروف).
بلطف: هايدي موطولا.


تأسس ال"موساد لعليا ب" عام 1939 بيد منظمة "الهجناه" لإحضار يهود إلى فلسطين عن طريق الهجرة السرية. لذلك فإن مصطلح "عليا ب" يتطرق هنا الى الهجرة غير القانونية إلى البلاد خلافاً لما نص عليه الكتاب الأبيض البريطاني من عام 1939، والذي حدد عدد اليهود الذين سمح لهم بدخول البلاد لإرضاء الممثلين العرب في مؤتمر لندن الذي عقد في نفس العام. خلال الحرب العالمية الثانية تباطىء نشاط الموساد وتركز بالأساس على انقاذ يهود من اليونان، بلغاريا، رومانيا والعالم العربي. مع انتهاء الحرب، كثفت المنظمة نشاطها مرة أخرى واستطاعت تدبير سفن حملت عشرات آلاف المهاجرين غير الشرعيين إلى فلسطين. طرق التجسس التي اعتمدها الموساد (مثل جوازات السفر المزورة والحبر غير المرئي) والطابع السري لعملياته تدل بأن المنظمة كانت أكثر من مجرد مبعوث لمشروع الهجرة اليهودية. وقد أثبت هذا الأمر عندما استخدمت المنظمة السفن لتهريب أسلحة إلى فلسطين تحضيراً لحرب 1948. مع تفكيك ال"موساد لعليا ب" عام 1953، اهتمت بالهجرة من الدول العربية أذرع مختلفة للدولة ومن بينها الموساد أو باسمه المعروف بدرجة أقل "الموساد للاستخبارات والعمليات الخاصة".

jacques.jpg

صورة من "اسبيريا، الجزء الأول: أخر يوم في القاهرة"، فيلم هايدي موطولا (2018، 29 دقيقة، HD).  بلطف: هايدي موطولا.
صورة من "اسبيريا، الجزء الأول: أخر يوم في القاهرة"، فيلم هايدي موطولا (2018، 29 دقيقة، HD).
بلطف: هايدي موطولا.

lamothe_2.jpg

صورة من "اسبيريا، الجزء الأول: أخر يوم في القاهرة"، فيلم هايدي موطولا (2018، 29 دقيقة، HD).  بلطف: هايدي موطولا.
صورة من "اسبيريا، الجزء الأول: أخر يوم في القاهرة"، فيلم هايدي موطولا (2018، 29 دقيقة، HD). بلطف: هايدي موطولا.
بلطف: هايدي موطولا.


لم يكن موطولا الفنان الإسرائيلي الأول، صاحب الثقافة الباريسية، الذي تجنده الاستخبارات السرية. مثلاً، في عمل الفيديو الذي أنجزه تمير تسادوك، فن- قصة تخفي، يتخبل الفنان من جديد قصة شلومو كوهن اباربانيل، فنان وعميل "موساد" سابق خدم في مصر بسنوات الخمسين وتظاهر بأنه فنان فرنسي بإسم شاردوفل (Charduval). وقد أتقن اباربانيل الدور لدرجة أنه تم تنظيم معرض فردي له في متحف الفن الحديث في القاهرة. التشابه بين قصة اباربانيل وقصة موطولا ليس من قبيل الصدفة فقد أصبح الاثنان صديقان منذ أن التقيا في ستوديو اندرا لوت في باريس قبل سنوات من خدمتهم في مصر. ولكن خلافاً لموطولا، استمر اباربانيل في التقدم في الموساد حتى أصبح نائب رئيس المنظمة. موطولا على ما يبدو لم يكن طموحاً بنفس الدرجة: "سافرت إلى مصر من اجل المغامرة.. لم ينجحوا في ايجاد أحد في إسرائيل يوافق على القيام بذلك"، يقول في الفيلم ويشدد بأنه انضم للمنظمة بالأساس من أجل "الأكشن". قبل ذلك بلحظة يعدد موطولا تصنيفاته وهوياته القومية (الفرنسية-الجزائرية- المصرية-الفلسطينية) ويغفل هويته الإسرائيلية. عندما تسأله المخرجة ان كان ينظر إلى نفسه كإسرائيلي يجيب: "لا، هذا غريب ولكنني لا أشعر بأنني إسرائيلي"، ويكتفي بهذا القدر.

The Man in the Suit, Digital print, Tamir Zadok 2017 .JPG

صورة من "فن- قصة تخفي"، عمل لتمير تسادوك (2017، فيديو، 27 دقيقة) بلطف: تمير تسادوك
صورة من "فن- قصة تخفي"، عمل لتمير تسادوك (2017، فيديو، 27 دقيقة) بلطف: تمير تسادوك.
بلطف: تمير تسادوك.

هايدي موطولا التي ولدت لابن جاك الإسرائيلي ولأم فنلندية، تضفي طبقة أخرى على كومة الهويات التي ورثتها عن جدها وجدتها. وقد درست في مدرسة منشار للفن في تل أبيب وفي الأكاديمية الفنلندية للفنون في هلسنكي، وهي تتنقل في أعمالها دائماً بين المكانين. فيلمها هذا مثير بشكل خاص لأنها قضت سنوات كناشطة وعضوة في كولكتيف التصوير "اكتيفستيلز" (ActiveStills) المعرف مع اليسار. بعد أن مكثت بضع سنوات في مارسيليا، محطة هامة في قصة جاك، قررت العودة إلى إسرائيل واستغلال الفرصة الأخيرة لاكتشاف حقيقة مغامرات جدها الصهيونية.

في فيلم اسبيريا، يتشابك بورتريه فنان منسي وعميل سابق في الاستخبارات السرية مع قصة شخصية تصف علاقة المخرجة مع جدها الآخذ بالتلاشي. نرى المخرجة تشارك الجد بلحظات يومية مصورة: تعلق لوحات قديمه له، تقدم له العرق وتستمع الى أفكاره حول اللون في محادثات تجري بالفرنسية، العبرية والعربية. في العديد من اللحظات البديعة في الفيلم نسمعها ترفع صوتها، كما يجري عند التحدث إلى أناس مسنين، وتوجه لجاك تعليمات كثيرة لتهيئته للتصوير من مكانها خلف الكاميرا. ولكن ما تقوم به كاميرا موطولا أكثر من أي شيء آخر هو الاصغاء. توثيق حياة جاك يتم بتفكير ومراعاة كما يأتي حضور الفنانة على الشاشة خفيفاً ومستساغاً. التنقلات الذكية من صور قديمة إلى دفاتر رسم، لوحات وأغراض حفظها جاك من أيامه كعميل سري (أبرزها بطاقة عمله كبيير لاموث) تقودنا على طول مسارب الذاكرة.

“Voilà, mademoiselle” (هذا هو، آنستي)، يقول جاك لحفيدته بتحبب عندما ينتهي التصوير. ولكن القصة لا تقترب من نهايتها. يبقى اختيار "اسبيريا" كعنوان للفيلم بمثابة أحجية تثير الترقب للحلقات القادمة.