بجعة سوداء، بجعة بيضاء
في تماثيل ايشل جرشوني يعود موتيف السلحفاة، رمز البطىء، ليظهر من جديد وهو الموتيف الذي استخدمته الفنانة كثيراً في أعمالها على مدى السنوات. أما لدى هولبن فيتجلى البطىء في خلق حيز يتطلب من المشاهد التريث والمكوث فيه، حيز يختلف ايقاعه عما اعتدنا عليه في العالم المتواجد خارج الجاليريا. حجاي أولريخ يكتب لنا عن معرض Slowland.
"Slowland”, المعرض المشترك لبيانكا ايشل جرشوني واوري هولبن في جاليريا بربور بالقدس (قيمتا المعرض: ميراف كيمل وميكا نيشر) هو معرض تركيبي يشمل النحت، الوسائط الرقمية، الأداء والفيديو. أعمال ايشل جرشوني المجازية وضعت داخل الحيز المزدحم والملون الذي بناه هولبن، ومعاً خلق الاثنان حيزاً بطيئاً يعكس عملية تطور ويخرج عن الحيز اليومي.
بالنظرة الأولى يبدو حيز المعرض كما صممه هولبن مثل غرفة ألعاب تعمها الفوضى. حيطانه مغطاة بلباد ملون ومليئة بالتعبيرات البصرية الطفولية. هكذا نرى على الحائط المقابل للمدخل ما يشبه الغابة الخضراء وفي داخلها جذع شجرة بني يتكىء عليه كلب. في الجانب الأيمن من الحائط هناك شخصية أرنب ليلكي كبير. الأرضية أيضاً مغطاة بقطع لباد غير متناظرة بألوان باستيل. أغراض مختلفة وضعت عليها وكأنها رميت أو ببساطة وضعت في غير مكانها كما يفعل الأولاد عادةً. أغراض أخرى ربطت بالحائط أو علقت من السقف. بين الأغراض بإمكاننا أن نجد ألعاب، دمى على هيئة حيوانات، دمى باربي، بيوت دمى من بلاستيك. بعض هذه الأغراض ملطخة بالمعجونة.
الأغراض في الحيز الذي خلقه هولبان مرتبة بمجموعات كما في أماكن اللعب. في كل مجموعة تقريباً تظهر عبارات بالانجليزية - The Middle Way, Misery Crossin', The Rabbit Whole - كلافتة مصنوعة من اللباد أو ككلمات مكتوبة على غرض مصنوع من اللباد. وقد صيغت العناوين من تلاعبات لفظية تشير الى اساطير أو قصص أطفال، جميعها تقريباً تعبر عن سيرورة ما أو عن عملية تشكل: رحلة، طريق، انتقال أو تغيير هيئة.
على الحائط المتواجد يساري المدخل علقت لافتة صنعت من مصابيح فلوريسنت ملونة تحمل عبارة The Middle Way. وهي تشير الى "طريق وسطى" ما وتفسح المجال للنظر الى حيز المعرض كحيز تسوية. مقابل اللافتة وضعت ثلاثة مساند تأمل دائرية نرى على أحدها دمية ميكي ماوس الساحر من فيلم "فنتازيا" لاستوديوهات ديزني. الفيلم مبني على أغنية ليوهان غوته من عام 1797 تحكي قصة مساعد الساحر الذي يتورط مع الكلمات السحرية التي تجعل المكنسة تقوم بأعمال التنظيف بدلاً عنه. مساعد الساحر يتسبب في فوضى تخرج عن السيطرة حتى يعود رب البيت ويعيد الأمور الى نصابها. تبرز دمية ميكي ماوس كونها معزولة على مسند ومن خلفها خلفية زرقاء مع نجوم مذهبة تذكر بطقية ميكي ماوس في الفيلم.
تتناول مجموعة أخرى فكرة احتمال تغيير الهيئة، وهي تشمل "بذرة" مكبرة من اللباد بلون أخضر كتبت عليها عبارة The Good Seed. البذرة نفسها تتواجد في حقيبة بنية. العبارة ممكن أن تذكرنا بفيلم The Bad Seed من عام 1956. الفيلم مبني على مسرحية تعتمد بدورها على رواية لويليام مارتش تتحدث عن امرأة تشك بأن ابنتها، ابنة الثماني أعوام، هي قاتلة متوحشة. عبارة أخرى، The Rabbit Whole، تذكر بمغامرات أليس في بلاد العجائب للويس كرول. هناك يمر الأرنب المستعجل الذي تتبعه أليس عن طريق نفق في أعماق الأرض الى عالم آخر يختلف فيه الوقت عن الوقت في عالمنا "الحقيقي". أما عبارة Misery Crossin فتظهر على لافتة صغيرة وضعت فوق وعاء ماء مربع مليء بالزنابق المائية المصنوعة من اللباد والبرق الوردي. في داخلها هناك دمى صغيرة من اللباد تبدو وكأنها تبحر في قارب ومن حولها صلبان تخرج من القارب. بالإمكان ترجمة عبارة "Misery Crosiin" ك"عبور العذاب" لكن كلمة Cross تلفت الانتباه الى الصلبان المتواجدة في القارب (رمز للموت ولكن كذلك للولادة من جديد و"الانتقال" بين العوالم"). عبور النهر او البحيرة هو تشبيه يصور في عدد كبير من الاساطير والقصص الانتقال الى عوالم أخرى. أيضاً في الكثير من أفلام ديزني- ولهذه تأثير واضح على عمل هولبن التركيبي- نرى بأن عبور النهر هو بمثابة تشبيه للتغلب على عائق، استهلال، خروج الى الحرية او انتقال الى عالم الأموات.
عمل آخر من اللباد يظهر بجعة سوداء وبجعة بيضاء خرز فيها سهم من لعبة اصابة الهدف. تثير هذه في الذهن عرض "بحيرة البجع" لتشايكوفسكي الذي تقف في مركزه أميرة بليت بتعويذة تحولها في كل صباح من امرأة الى بجعة. في نسخة تشايكوفسكي الأصلية هناك نهاية سعيدة حيث تزول التعويذة عن الأميرة أما في قصة الباليه البديلة- التي أضافها شقيق تشايكوفسكي عام 1895- فتنتهي بموت الأميرة وعشيقها زيجفريد غرقاً.
يظهر موتيف الموت في أعمال بيانكا ايشل جرشوني. حيث وضعت تماثيلها داخل أجراس زجاجية مربعة تميزها زواياها الحادة عن رهافة اللباد والمعجونة في عمل هولبن التركيبي. في داخل كل جرس وضعت رؤوس تماثيل. رقابها مقصوصة على شكل صلبان، وفي قمة كل جمجمة يجلس حيوان معين. عيون الشخصيات تخرج من ثقوبها ووجوهها معقودة وشاحبة وتعابيرها مفزوعة او مخيفة. بالإضافة إلى التماثيل، علقت على الحيطان صور مأطرة فيها رسومات أنجزتها ايشل جرشوني عبر الحاسوب. في احداها يظهر وجه غير واضح وخالي من التعابير، وكأنه موضوع على جانبه، عيناه مغلقتان وشفتاه تخلقان دائرة حمراء تذكر قليلاً بأفواه الدمى الجنسية. كتب في أسفله "لأن الأحياء يعرفون بأنهم سيموتون والأموات لا يعرفون شيئاً"، وهو ما يربطه بلوحات "ميمنتو موري" ("تذكر موتك"). في لوحة أخرى تظهر دائرة مع شفاه حمراء غير مطبقة، مستديرة هي الأخرى، تكشف عن أسنان وحلق. حول الدائرة هناك ورود صفراء. في لوحة ثالثة يظهر وعاء ورود حمراء يخرج من دائرة بيضاء. الورود تشبه الشفاه الحمراء.
تخلق أعمال ايشل جرشوني في الحيز أجواء متجهمة لا تتسق ظاهرياً مع الألوان والخفة التي تميز عمل هولبن التركيبي. الموت والجنسانية تخلق توتر معين مع المناظر الطفولية من حولها. هذه الفجوة تثير بلبلة معينة وتخلق حاجة للمكوث في الحيز أكثر حيث يتجلى معنى الحيز كموقع يخلق حواراً بواسطة التناقضات، الأسئلة والتريث.
لقد بنى هولبن وايشل جرشوني حيزاً يستدعي التفاعل ولكن ذلك كما يتضح صحيح فقط ظاهرياً. فزاوية التأمل مثلاً غير ملائمة للتأمل بسبب مصابيح الفلوريسنت المتوهجة وكذلك بسبب المضامين المشوشة التي تنبثق عنها. أيضاً عبارة Eye Contact التي تظهر في المعرض والتي تطرح امكانية التواصل الشخصي والحميمية بواسطة النظر تستخدم كعنوان لتمثال هو بمثابة مدينة ملاهي لدمى صغيرة بحجم الاصبع كراسيها هي أغلفة عدسات لاصقة (التي تشير بالذات الى قصر النظر).
يبدو من الواضح بأن الأعمال تبقي آثاراً لعمليات حصلت على مدى وقت متواصل وكجزء من عملية انتاج طويلة. في تماثيل ايشل جرشوني يعود موتيف السلحفاة، رمز البطء، ليظهر من جديد وهو الموتيف الذي استخدمته الفنانة كثيراً في أعمالها على مدى السنوات. أما لدى هولبن فيتجلى البطىء في خلق حيز يتطلب من المشاهد التريث والمكوث فيه، حيز يختلف ايقاعه عما اعتدنا عليه في العالم المتواجد خارج الجاليريا. انه حيز يحتوي على ما يشبه الألغاز التي تحتاج بعض الوقت للتفكير في حلها.
يقول النص الذي كتبته القيمتان ميراف كيمل وميكا نيشر بأن الرابط بين هولبن وايشل جرشوني يخلق حيزاً يخرج عن المألوف في الحياة اليومية- حيزاً من البطء، ويتجلى ذلك أيضاً في الأعمال وأيضاً في التركيب العام. طريقة عمل ايشل جرشوني بطيئة جداً، فرغم أن لوحاتها الرقمية صنعت عبر الحاسوب إلا أنها تحتوي على الكثير من الطبقات وتعكس العملية التي مرت بها اللوحات خلال المعالجة الرقمية.
في مدخل المعرض علقت لافتة تطلب من الزوار خلع أحذيتهم. هذا الطلب- خاصة في مكان مثل القدس على أماكنها المقدسة- يساعد الفنانين في Slowland على فصل حيز المعرض عن المنظومة اليومية والوقت الجاري. إلى جانب اللافتة عرض عمل فيديو بدون صوت لهولبن. يعرض العمل غرفة انتظار صغيرة يدخل إليها الأولاد ويخرجون منها خارج نطاق الصورة. القدمان الممدودتان إلى الأمام تكشفان عن الشخصية غير المعرفة التي تتواجد في الغرفة وتنظر من وجهة نظر الكاميرا. لا يظهر الفيديو ماذا يجري للأولاد بعد أن يدخلوا إلى الغرفة. بالقرب من هذا العمل وضع على مقعد منخفض كتاب اسمه فيسبوك وفيه لوحات وجه لايشل جرشوني. ينتهي الكتاب في نصفه وبقيته هي عبارة عن أوراق بيضاء فارغة. الأوراق الفارغة التي لم تتحول بعد الى وجوه (لأناس؟ بالغين؟)- مثلها مثل الأولاد الذين يدخلون الى الغرفة الغامضة في الفيديو. هي بمثابة مقدمة لحيز المعرض نفسه.
تتواجد الجاليريا في هذه الأيام في مركز صراع مع بلدية القدس وأطراف أخرى تحاول اغلاق المكان بسبب استضافته لمحاضرة لمديرة منظمة "نكسر الصمت" العامة. بناء المعرض كحيز من البطء ومن لحظات تتوقف عند إمكانيات تغيير الهيئة والسيرورات هو بدرجة كبيرة اعتراض على الواقع السياسي خارج الجاليريا (الواقع الذي يسرع الى اطلاق الأحكام، يفرض الأجوبة ويطالب بالالتزام بشروط لا مكان فيها للبلبلة ولطرح الأسئلة والتناقضات أو التفكر). أمام الواقع السياسي القائم في إسرائيل يتيح المعرض المجال للتفكير في المقاومة كخلق حيز يسمح بالخطاب والحوار العام.
استمر معرض Slowland في جاليريا بربور حتى 24 آذار 2017.