م (ب) ر تزور #1: ميراف مارودي

لقاء أول في إطار زاوية جديدة من زيارات الاستوديو للكاتبة ميخال ب رون، التي تعيش في برلين. مع اندلاع الوباء، تطورت هذه الزاوية واتخذت لها أشكالا جديدة. سيكون في مركز كل لقاء بحث في أعمال فنان/ة آخر/أخرى. تطفو من هذه المقالات أيضًا أفكار حول الظروف الراهنة المعاصرة للفن والحياة. 

ولدت فكرة كتابة زاوية زيارات استوديو حين زرت الفنانة موران سندروفيتش (ولدت عام 1980، تعيش وتعمل في برلين)، أواخر عام 2019. قبل أيام تفشي فيروس كورونا – ولكنني أريد أن أبدأ من النهاية. نتحدث أنا وموران حول أعمالها، داخل أعمالها. بجانبنا منحوتات جديدة موضوعة على المسطبة. وجودها الجسدي الأزغب ومتطلبًا. على الجدار أغراض معلقة مصنوعة من أغراض معروفة، كما لو أنها نمّت أعضاء جديدة في تهجين ما بين الجماد والحي. بجانب الشباك طاولة وصناديق تخزين لمواد خام: شعر اصطناعي، صمغ ودمى بلاستيكية. تجلس موران أمامي وخلفها مرآة محاطة بالصور، رسومات من تاريخ الفن وصور تضفي على أعمال الفنانة سياقا وإلهاما. فيها جميعًا أجساد مهجنة مختلفة. تضاعف المرآة مساحة الغرفة وتكشف لي أن خلفي تمثال قديم، مخزّن داخل فجوة جداريّة طافحة، بما في ذلك جميع أعضاء التمثال الملتفة داخل نفسها.

نتساءل أنا وموران ونتبادل النصح عن كيفيّة التعاون بيننا. هي فنانة يحركها الحدس، تعمل بكثافة وتنشط انطلاقا من الفعل وليس بواسطة الصياغات النظرية. ولكن في النصوص التي تكتب عنها تطمح إلى دقة مخلصة لأعمالها، بشكل يلقي عليّ بالرعب. موران – كيف يمكن الكتابة عن فنانة ليس من خلال حنجرتها، ليس من خلال الكلمات التي سبق أن كتبت عنها، تحت إشرافها وكل هذا بشكل حر؟ هكذا ولدت فكرة ألا أكتب عن الفنانة بل عن زيارة الاستوديو الخاص بها. هذه الزيارة نشرت مؤخرا كحوار في العدد رقم 7 من المجلة "بروتوكولز".1

 

אפל.jpg

مرآة محاطة بالصور في استوديو موران سندروفيتش. تصوير م (ب) ر، شباط 2020
مرآة محاطة بالصور في استوديو موران سندروفيتش. تصوير م (ب) ر، شباط 2020

unnamed.jpg

أسقف عالية في حيّز صناعي، تحتاجه الفنانة كشرط ضروري حتى تفكّر. الصورة بلطف الفنانة كاترينا غون أوهلرت، دوسلدورف، 2011
أسقف عالية في حيّز صناعي، تحتاجه الفنانة كشرط ضروري حتى تفكّر. الصورة بلطف الفنانة كاترينا غون أوهلرت، دوسلدورف، 2011

 

كان الاستوديو هو المكان الأول الذي انكشفتُ فيه على الفن. قبل زيارة المتاحف والمعارض بكثير. كان هذا لدى عمتي وهي فنانة. اسمها كاترينا غون أوهلرت (ولدت عام Oehlert, 1953). الاستوديو مكان ألقى عليّ بسحره على الدوام خلال زيارة العائلة في ألمانيا حين كنت طفلة. كان فيه كراسٍ فوقها قطع من الفرو، وفي مركزه نول حياكة كبير. كان فيه ريش، ألوان، أغراض من الجبص، وعلى نحو خاص حيز كبير وامرأة صغيرة ترتدي مريول العمل الكحلي وفوقه بقع ألوان، بينما ربطت شعرها وأبعدته عن وجهها بشريط قماشي. على امتداد السنوات تنقلت عمتي بين عدة فضاءات عمل في دوسلدورف ومحيطها، لكن ظل في الاستوديوهات الخاصة بها نفس الجو المميز، نفس قطع الفرو، نفس الريش، ونفس الأسقف العالية لحيز صناعي كانت المرأة بالمريول الكحلي بحاجة اليها كشرط ضروري حتى تفكر، مثلما شرحت لي ذات مرة وبملامح الفنان الجدية لديها.

الاستوديو القادم والمهم في حياتي كان استوديو موشيه رون (1945-2016). فنان، صديق تحوّل إلى ابن عائلة. وصلت إليه في شبابي بحثا عن حل لتركيب إطار لعمل كان كبيرا أكثر من اللزوم، كما يليق بجيل المراهقة، وقد انتجته في قسم الفنون لدى فيريد فرحي لننبرج في حيفا. مرة أخرى انكشفت على عالم بأكمله. كان استوديو موشيه مخزنًا تحت البيت، سقفه منخفض ومن دون نوافذ. "أقراط للفيلة" من المعدن كانت معلقة من السقف، الجدران الاسمنتية كانت مغطاة برسومات وجوه ملونة، ووجوه منحوتة أيضًا في قطع خشبية. كانت هناك أيضًا ألوان وأدوات عمل. أذكر يديه الكبيرتين تمسكان بنفس المتانة سواء بمطرقة ثقيلة أو بريشة دقيقة. لا يهم أين يقع النظر سواء كان على باب أو جرن مغسلة، خزانة، رفوف او عمل جديد، كان كل شيء منها فنًا.

في تلك الأيام، كانت المعارض بالنسبة لي لا تعدو عن كونها مجموعة من الأعمال الفنية المعلقة على الجدران، والقوامة ليست أكثر من عملية تعليق الأعمال. المكان الحقيقي لمعايشة وتحسس وفهم فعل الفن كان الحيز الذي يخلق فيه، بجانب الإنسان الذي ينتج هذا العمل. كان هذا أكثر الأماكن إثارة للانفعال. قبل حُكم العالم على العمل، المقياس في ستوديو الفنان الأوتونومي يتراوح بين فان جوخ والنجوم.


IMG_7764.JPG

استوديو مويشيه، حيفا. تصوير: تانيا كربتسوف، 2016
استوديو مويشيه، حيفا. تصوير: تانيا كربتسوف، 2016

 

بالتالي كان من الطبيعي أن اكتب عن زيارات استوديوهات فنانين في حياتي. أشعر بالانفعال من المركب غير المخطط والتجميعي لنخبة الفنانين الذين سيتجمعون ضمن هذا الإطار: فنانين شباب في مطلع طريقهم، فنانين معروفين ومكرّسين، فنانين مستقلين يعملون خارج المنظومة المعروفة، فنانين محليين وأجانب في برلين، من يعملون هنا ومن يعملون هناك.. رسامين، فناني أداء، فنانين سياسيين، فنانين أكاديميين، فنانين يشكلون بذاتهم مؤسسة.. أشعر بالانفعال من التفكير بالفنانين الذين سوف أزورهم مستقبلا للتحدث معهم وتصوير حيز عملهم بجميع أركانه التفصيلية إلى أبعد درجة.

"هل يوجد لديك استوديو؟" السؤال موجه إلى الفنان. تحدثت مع الرسامة إيفا التر قبل اللقاء بيومين فقط، وكانت في الاستوديو. تتنقل الآن على الدراجة الهوائية ما بين الدار وحيز العمل. عمليا، تقبض الأزمة على الفنانين وهم مستعدون تقريبًا. إنهم المتضررون الأساسيون، ليس لديهم أمان اقتصادي، حيث صمت عالم الفن وتم إلغاء جميع الدعوات والمشاريع المخططة، التي يشارك الفنانون فيها أو يعملون وينالون أجورهم منها بشكل غير مباشر. ولكن الفنانين هم أيضًا المحترفون في التأقلم. الأمان الاقتصادي لم يكن من نصيبهم في أي وقت من الأوقات. عمل الفن، في المرحلة السابقة لعرض نتائج العمل الابداعي على العالم، هو بطبيعته مستقل، أوتونومي، مكتفٍ بذاته وسبب لذاته. من البيت أو من الاستوديو، مقياس الرسم في الوضع الجديد هو بين الكورونا وبين الجدران.

يبدو أنني سأجري لقاءاتي التالية بواسطة وسائط تكنولوجية. مرة أخرى سأتمكن من التحدث مع فنانين وهم جالسون في كل مكان في العالم. يفتح الفنانون أمامي نافذة على حيز عملهم، ويجعلونني أرى ما يرغبون بأن يظهروه. عين الكاميرا ستكون في أيديهم هم. هل سينجح اللاوعي الرقمي مع كل ذلك في التسلل إلى الشاشة؟

 

زيارة لدى ميراف مارودي 23 حزيران 2020

أتابع ميراف مارودي على الفيسبوك على نحو حثيث، أرى هناك ما شاهدته وصورته. أرى ما شعرت به وشاركته. إنها تضحكني، تهزني، هذه سطور من الحب. فيما يتجاوز إيموجي القلب. في فترة إغلاق الكورونا في برلين، جلسنا في بيوتنا. لم تكن هناك روضة للطفلة، وساحات الألعاب العامة كانت مغلقة. كذلك الأمر الغاليريهات والمتاحف. ليس أننا كنا نسافر في هذه الأيام لرؤية شيء ما، وبالتأكيد ليس بواسطة المواصلات العامة (من يحتاج إلى سيارة في برلين؟ داخل حشد الأفكار اليوتوبية التي جلبتها الكورونا معها – بينها حول قيمة المحلي على السياحة العالمية المنفلتة، التي كنا شركاء فيها واعتشنا منها؛ حول التضامن على مستوى الحي بدلا من الاستهلاك التبذيري من الشبكات العملاقة، كم كنت أتوق أن اكون واحدة من الرأسماليين ويكون بحوزتي سيارة خاصة... كانت هذه، ولا تزال، فترة تعج بالتناقضات). قابعين في البيوت، مقيدين بزيارة نافذة من أصدقاء يتمتعون بإمكانية الحركة أكثر، تحركوا في المدينة على الدرجات الهوائية، كان جدار مارودي في صفحة الفيسبوك نافذة على العالم في الخارج. حظي المتابعون بإطلالة متواصلة على عمل المصورة في الوقت الحقيقي، حين كانت توثق تاريخًا خلال حدوثه. "أعتقد أنك يجب أن تصدري كتابًا مع صور الكورونا بعد أن يمر كل هذا". كتبت لها في شعور من الاستعجال، في رسالة خاصة.

ههههههههه

هل تعتقدين؟

بعد فترة الكورونا سيكون مملا بعض الشيء رؤية أشخاص في شرفاتهم.

في الحياة اليومية هذه قمة الكيتش.

أجابتني مارودي، بحدة وذكاء (كانت المراسَلة في 15 نيسان 2020).

 


pasted image 0.jpg

منظور القابعين في بيوتهم، حين ما كان ما زال محظورا الذهاب إلى ساحات الالعاب. تصوير: م ب، نيسان 2020.
منظور القابعين في بيوتهم، حين ما كان ما زال محظورا الذهاب إلى ساحات الالعاب. تصوير: م ب، نيسان 2020.

pasted image 0 (1).jpg

"من سلسلة سلام من بلاد الشرفات". تصوير: ميراف مارودي، نيسان 2020
"من سلسلة سلام من بلاد الشرفات". تصوير: ميراف مارودي، نيسان 2020

pasted image 0 (2).jpg

واضح لي أنه لو كان هذا فيلم خيالٍ علمي كنا سوف نتابع مجموعة من الشباب الذين يجتمعون على الرغم من الحظر كي يتلامسوا، يتعانقوا ويناموا معا، لأن الخطير والممنوع واللمس الممنوع تحوّل إلى شيء يعج بالرغبة ومثير للأحاسيس أكثر بمئات الأضعاف"، كتبت مارودي (13 نيسا

واضح لي أنه لو كان هذا فيلم خيالٍ علمي كنا سوف نتابع مجموعة من الشباب الذين يجتمعون على الرغم من الحظر كي يتلامسوا، يتعانقوا ويناموا معا، لأن الخطير والممنوع واللمس الممنوع تحوّل إلى شيء يعج بالرغبة ومثير للأحاسيس أكثر بمئات الأضعاف"، كتبت مارودي (13 نيسان 2020). "أوف، ثارت اعصابي على الزوجين في ساحة الألعاب. وبَعدين معي؟... أجبتها. تصوير: ميراف مارودي، نيسان 2020.

 

"القبض على لحظة في تاريخ يحدث الآن – وأنت جزء منه" – أجابت مارودي حين سألتها عن عملها في فترة الكورونا. "في البداية كان يغلبني النعاس"، قالت. إلى أن توجهت إليها صحفية إسرائيلية وسألت: كيف تبدو برلين في فترة الكورونا؟ طلبت منها صورًا وخرجت مارودي لتصور. في البداية المناطق السياحية التي كانت فارغة. "عندها فهمت أن شيئا جديًا يحصل. في اللحظة التي وقفت فيها على بوابة براندنبورغ وبوتسدامر بلاتس. وقفنا وحيدتين لمدة ساعة ولم يكن هنا أحد".

 

pasted image 0 (3).jpg

برلين الفارغة. ميراف مارودي. نيسان 2020
برلين الفارغة. ميراف مارودي. نيسان 2020


unnamed (1).jpg

برلين الفارغة. ميراف مارودي. نيسان 2020
برلين الفارغة. ميراف مارودي. نيسان 2020

 

وهنا عادت مارودي إلى الحي و"كان الحي مكتظًا بالناس. كانت الأحياء مليئة بالحياة"!

 

pasted image 0 (4).jpg

أن نجتمع أو لا نكون / Berlin FUNdemic. تصوير: ميراف مارودي. نيسان 2020
أن نجتمع أو لا نكون / Berlin FUNdemic. تصوير: ميراف مارودي. نيسان 2020

 

إن قلب الوضع ما بين مواقع السياحة الخاوية والمناطق السكنية التي تعج بالحياة يعرض بصور حادة التوترات التي كانت قائمة ما بين احتياجات السكان المحليين وما بين استهلاك صناعة السياحة، الصراع ما بين وضع الأنظمة وما بين السوق الحرة التي صادرت دور airbnb لصالح ضيوفٍ للحظة غمروا المدينة. السياح اختفوا دائما في نهاية العطلة ولكن كان هناك دائما آخرون ممن احتلوا مكانهم. كانت مناطق معينة في المدينة مسكونة حتى الآن بالأعمدة اللونية الافتراضية، لحظة هنا ولحظة تغيب إلى أن توقف الأمر مع قدوم الكورونا، لقد اختفى السياح كأنهم لم يكونوا هنا أبدًا.

إن التناقض ما بين تجمعات الشباب في الاحتفالات على طول القناة، وفوقهم انعزال المسنين في شرفاتهن وخلف شبابيك بيوتهم، هو انقلاب في الوضع التقطته مارودي بعدستها أيضًا. كان هذا هو التوتر ما بين المجموعات السكانية التي يتهددها الخطر وما بين المقتنعين بمناعتهم، الذين قد يخرجون وينشرون الفيروس دون أن يعرفوا. أو لربما تشهد الصور على من كان في مراحل تطوره الجسدية، الاجتماعية، الهورمونية قادرًا على البقاء بين جدران بيته، ومن كان مجبرًا جسديًا على المغادرة إلى الخارج. يمكن أحيانا العثور على انقلاب الوضع في صورة واحدة: "لربما أن الفيروس لا يميز بين الناس ولكن الإغلاق يقوي الفجوات"، كتبت مارودي (13 نيسان 2020).


pasted image 0 (5).jpg

"لربما أن الفيروس لا يميز بين الناس ولكن الإغلاق يقوي الفجوات"، تصوير: ميراف مارودي. نيسان 2020
"لربما أن الفيروس لا يميز بين الناس ولكن الإغلاق يقوي الفجوات"، تصوير: ميراف مارودي. نيسان 2020


من شدّ مارودي إلى البدء بتصوير الشرفات كانت صديقة قررت أن لا تخرج من البيت. على امتداد 3 أشهر رأتها فقط من الشباك. صارت الحياة من خلال الشرفات. بينما كان الدافع القوي لدى مارودي معكوسًا: "أردت فقط الخروج من البيت والمشي". في بعض الأيام مشت ما بين 10 الاف و20 الف خطوة كل يوم، كما أخبرها جهاز الهاتف النقال. وهكذا جمعت في صورها 400 شرفة. "حاولت أن يعرف الناس أنني اصور. لا يوجد توقيع منهم. لكنهم لوحوا بأيديهم في تحية لي" – وفي غالبية الاحوال كان هذا الأقرب إلى نيل تصريح ممن صورتهم. في إحدى الحالات أرسل من قامت بتصوريهم عناوين الايميل التي كتبوها على ورقة وطووها على شكل طائرة ورقية. الناس في ألمانيا متشددون فيما يتعلق بخصوصيتهم ويحافظون على تفاصيلهم الشخصية في سلسلة من القانون التي تشدد على حماية المعطيات والتفاصيل. "ألمانيا تخسر تصوير الشارع – لأنه لا يمكن تصوير أشخاص. كل هذا الفن مات " تقول مارودي.

حين تطلب تصوير مواطنين ألمان في الشارع – عادة في أوقات اعتيادية، تواجه معارضة. ولكن الان "الناس قالوا لي مرحبا". جميعهم كانوا لطفاء وهو ما قاد مارودي إلى وضع مصطلح "FUNdemic". من الدرر على صفحتها في فيسبوك: "تباعد اجتماعي؟ نعم!

قوانين جديدة؟ يسعدنا أن نوبخكم!

نظافة؟ أين يمكن أن ندفع؟

عدم رؤية الجد والجدة؟ ما الجديد في الامر؟ (23 نيسان 2020).


pasted image 0 (6).jpg

"بعد أن صورتهم وهم يتمتعون بالغروب من الشباك، سالتهم فيما إذا كانا يعرفان الواحد الآخر فقالوا كلا. عندها كتبوا عنوان الايميل على ورقة، طووها على شكل طائرة ورقية وبعثوها إليّ كي أرسل لهم الصورة. (12 نيسان 2020). تصوير: ميراف مارودي، نيسان 2020)
"بعد أن صورتهم وهم يتمتعون بالغروب من الشباك، سالتهم فيما إذا كانا يعرفان الواحد الآخر فقالوا كلا. عندها كتبوا عنوان الايميل على ورقة، طووها على شكل طائرة ورقية وبعثوها إليّ كي أرسل لهم الصورة. (12 نيسان 2020). تصوير: ميراف مارودي، نيسان 2020)


لقد تحول تصوير الشرفات إلى هوس. لم تكن هناك تفاعلات اجتماعية متبادلة. لم يكن عمل. في ايام التباعد الاجتماعي كان يمكن التجول والتصوير فقط. لم يكن هناك ما يشوش التفكير. هناك نقود – منحة الدعم التي اعطتها بلدية برلين للسكان الذين تضرر مصدر رزقهم بسبب الكورونا (وأول وأسرع من طلب المنح كانوا الفنانين) – مما مكن مارودي من إنتاج الفن على أفضل وجه. كانت هذه شروط مثالية. تثبت إنتاجيتها أن الفرضية الاقتصادية بكون الإنسان كسولا بطبعه ويحتاج إلى محفزات أو مخاوف كي يخرج للعمل – هي فرضية خاطئة. "بدون نقود وبدون عمل – كنت سأرتجف من الخوف"، قالت مارودي، ولكن بفضل منحة الدعم، "الخط البياني للبنك بدا مثل الخطوط البيانية للكورونا" – قالت وكتبت في فيسبوك: "إلى جميع هذه الحكومات التي تخرج ترليونات الأموال من أكمامها الآن، لماذا هناك فقر في العالم؟" (27 اذار 2020)

كتبت مارودي مرة أيضًا أنه "من بين ملايين الصور التي التقطتها، اكثر ما انحفر عميقا في وعيي منها هي الصور التي لم الحق بتصويرها" (5 حزيران 2020). هل كانت صور كهذه فترة الكورونا، سالتها. فقالت بالتأكيد، وروت أنه في إحدى المرات تأخرت على لقاء، وفي الطريق شاهدت محادثة بين امرأتين، بين شرفتين كل واحدة في عمارة اخرى. هذه صورة لن تتمكن من تصويرها. "معظم الوقت ليس هناك فرصة للتصوير"، تقول. "هناك شجرة أو أن الشرفة أعلى من اللازم"، وأحيانا انتظرت وقتا طويلا إلى أن يخرج السكان إلى الشرفات لكي تصور، وحتى انها اخترعت أغاني غنتها في الشارع في محاولة لجذب الناس إلى الخارج. "لماذا هذا الهوس؟ لماذا أريد صورة اضافية؟" سألت نفسها. ألا تمثل صورة واحدة جميع هذه الصور؟ ولكن حتى حين حاولت أن أسأل ما إذا كانت الصور الحميمية لأشخاص داخل بيوتهم تنطوي على توتر داخلي، وأية أحداث أولية بسيطة أكثر غموضا ولفتا للانتباه من المحتفلين في الخارج – فإن الصور نفسها ترفض هذا التدريج على سلم من القيم.

وعندها، خلال محادثتنا وقفت حمامة على شرفة الجارة في عمارة مقابل دار المصورة. يجب أن تصورها. وها أنا أعايش صورة في الوقت الحقيقي من الجهة الاخرى للهاتف.

خلال فترة الكورونا كانت الكاميرا مستعدة للتصوير دائما، وكانت البطاريات مشحونة على نحو دائم. صورها فازت أيضًا بجوائز خلال هذه الفترة، بما في ذلك الصورة الأيقونية للخفاش الذي يأكل بشرا الذي نال جائزة بارتور للتصوير في مسابقة "Covid 19 Reflections."

 


IMG-20200623-WA0001.jpg

خفاش يأكل بشرا، لوحة جدارية في برلين، تصوير: ميراف مارودي. نيسان 2020
خفاش يأكل بشرا، لوحة جدارية في برلين، تصوير: ميراف مارودي. نيسان 2020

هذا ربط لعدة لحظات، تفسر مارودي نجاح الصورة: الجدراية التي تكتسب معنى جديدا في فترة الكورونا، تتصل مع الشخصية التي تطل من العزل من خلال الشباك في المبنى. "شيء ما يتلقى بُعدًا يتجاوز الشيء نفسه".

 

pasted image 0 (7).jpg

خفاش يأكل بشرا، لوحة جدارية في برلين، تصوير: ميراف مارودي. نيسان 2020
خفاش يأكل بشرا، لوحة جدارية في برلين، تصوير: ميراف مارودي. نيسان 2020
 

pasted image 0 (8).jpg

ميراف مارودي, Photokabine, عمل اشتراه ICP – المركز الدولي للتصوير في نيويورك. تصوير: ميراف مارودي. أيار 2020
ميراف مارودي, Photokabine, عمل اشتراه ICP – المركز الدولي للتصوير في نيويورك. تصوير: ميراف مارودي. أيار 2020

 

هل حظيت أعمالك بصدى أكبر خلال الإغلاق؟ سألتها. فكرت بمشاهدين مثلي، ممن كانوا مشدودين إلى شاشة الحاسوب، حين لم يكن هناك عالم للخروج اليه. نعم! قالت. بعد 20 سنة كمصورة فجأة صرت اتمتع بالاعتراف. حين تفكر بالسبب، تشير إلى أن الأمر الأول كما يبدو هو أنها صارت افضل، ولكن بالإضافة إلى ذلك "بدأ العالم يعترف بالمصورات النساء". كمثال على ذلك تروي أنه فقط في السنة الأخيرة عرضت للمرة الأولى في مهرجان التصوير الاسرائيلي بينما ما زالت مطبوعة في ذاكرتها الاهانة من أن مهرجانا خصص جدارًا لصور ستيلز من أفلام، وهو مجال كان لديها فيه سجل فخم، غابت أعمالها عنه. تجدر الإشارة إلى أن المهرجان الذي عرضت فيه أخيرا كان أيضًا المهرجان الأول الذي كانت قيّماته نساء.

يلعب التوقيت دورا حاسما في صور مارودي. فن التصوير يتميز "باللحظة الحاسمة"، وهي لحظة كبسة الكاميرا التي تلتقط ما يجري أمامها وتؤطره في لقطة ناجحة، حتى لو أن تلك اللحظة تم إخراجها وإنتاجها بشكل مشدد. هناك صور تروي أيضًا اللحظة التي سبقت أو تلمّح إلى اللحظة التالية. مارودي تضيف إلى هذا الوضع المركب لبعد الزمن الذي في الصورة، لحظة مشاهدتها أيضًا. فمن جهة:

سيكون من الممل قليلا بعد الكورونا رؤية أشخاص في شرفات

في الحياة اليومية هذه قمة الكيتش.

كتبت لي خلال مراسلاتنا. من جهة ثانية في سلسلة الصور أظهرت أنه "لقد سبقت زمني ببساطة". هذه الصور لأشخاص بالكمامات التي بدأت بإنتاجها قبل سنتين كطريقة للتعاطي مع أزمة شخصية كبيرة، بوست تراوما شلت حياتها. هذه الصور في الأيام الاعتيادية كانت ستؤطر على انها تعبير نسائي شخصي، وبالتالي هامشي وغير مثير للاهتمام، قالت لي. فجأة مع الكورونا حظيت هذه الصور بمعنى اخر.

 

 

pasted image 0 (9).jpg

مع ميلاني شميدلي. تصوير ميراف مارودي، كانون الثاني 2020
مع ميلاني شميدلي. تصوير ميراف مارودي، كانون الثاني 2020


pasted image 0 (12).jpg

"ومرة أخرى سبقت زمني لفترة، وهذه المرة معي قوس قزح في دور المعتزل Itai KT. تم تصويرها في آب 2019 في تشيكيا" (9 نيسان 2020). تصوير: ميراف مارودي
"ومرة أخرى سبقت زمني لفترة، وهذه المرة معي قوس قزح في دور المعتزل Itai KT. تم تصويرها في آب 2019 في تشيكيا" (9 نيسان 2020). تصوير: ميراف مارودي

pasted image 0 (10).jpg

"سبقت زمني وهذه المرة الحيوانات البرية تسيطر على المدينة" (10 نيسان 2020) تصوير: ميراف مارودي
"سبقت زمني وهذه المرة الحيوانات البرية تسيطر على المدينة" (10 نيسان 2020) تصوير: ميراف مارودي

 

تلك الصدمة الشخصية دفعت مارودي مصورة البورتريهات الموهوبة والتي كانت هذه مصدر معيشتها، إلى وضع عانت فيه من القلق الاجتماعي ولم تكن قادرة على التعاطي مع الوجوه. في تلك اللحظة بدأت في تصوير أصدقاء خلف أقنعة. "أنا اتعاطى مع هذا منذ سنتين، وفجأة يتوقف العالم والجميع يتحولون إلى شبيهين بك!". هنا باتت هي الخبيرة. تحول هذا من "عمل امرأة كانت تتناول ذاتها – إلى شيء يفهمه كل العالم". وصلت مارودي مستعدة إلى الأزمة: ليس فقط انها كانت خبيرة في العزل والتباعد الاجتماعي، بل انها كانت مزودة بأقنعة. "الدكاكين مغلقة وما يوجد لديك في البيت هو المتوفر – وأنا كان لدي أقنعة! الكثير من الأقنعة". وهكذا ولدت السلسلة مع القناع لأنجيلا ميركل. مارودي "المتحدثة الأسوأ في العالم باللغة الالمانية تجولت في الشوارع واضعة قناعًا لميركل وقالت للناس في الشوارع أن عليهم البقاء في البيت، ونالت كل الحب الذي تثيره شخصية ميركل، والتي ازدادت قوة في ضوء الحس القيادي الذي أظهرته خلال إدارتها الأزمة. "أحدهم رمى جوينت بسببي"، قالت. مارودي التقطت اللحظة الكوميدية وكان هدفها أن تضحِك أناسًا تعساء وليس التصوير أو التوثيق. ليس صدفة أن مارودي وميركل تتقسمان الحرف ميم في اسميهما. مبادرتان.


pasted image 0 (11).jpg

 "Busy day for our amazing leader” 23 اذار 2020. في الصورة: ميراف مارودي مع قناع أنجيلا ميركل.
"Busy day for our amazing leader”
23 اذار 2020. في الصورة: ميراف مارودي مع قناع أنجيلا ميركل

 

"لقد فقدت الاهتمام بإنتاج الفن"، تقول مارودي في سياق محاولتي تأطير جولاتها بقناع ميركل كأعمال أدائية او نشاط حضري. حين صمت عالم الفن الممأسس تساءلتُ هل سأفتقد المعارض؟ وماذا بالنسبة لمارودي؟ الانكشاف في الشبكات الاجتماعية يرضيها: لا حاجة لطباعة الصور، والجمهور كبير بمئات المرات (10 آلاف متابع على انستجرام!) نعود إلى نقطة البداية، إلى الشكل الذي تابعتُ فيها أعمالها حين كنت داخل البيت وهي في الشوارع. أنا محظوظة. لست بحاجة إلى معارض في حين أنني محاطة بفنانين في حياتي. حاليا سأواصل تقديم تقارير من الاستوديو لمن يحتاج إلى وسائط ليحظى بمنالية للفن.

إكرامية رقم 1: حين تصادقون فنانا، تتعرفون سريعا على 10 فنانين آخرين.

إكرامية رقم 2: في حين أن مؤرخ الفنون في الأمس كان ينبش الأراشيف، فان الباحث في الفن غدا سينبش في الشبكات الاجتماعية.

 

Keneth Goldsmith, Wasting Time on the Internet (Harper Perennial, 2016).

  • 1. Michal B. Ron and Moran Sanderovich, “In the future there will be no such creatures like me,” PROTOCOLS #7: 6 + Genders (May 2020).